ومن الناس من غرته الدنيا، فقال: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، وهذا محل التلبيس، فإن النقد لا يكون خيراً من النسيئة، إلا إذا كان مثل النسيئة، ومعلوم أن عمر الإنسان بالإضافة إلى مدة الآخرة ليس بجزء من ألف جزء إلى أن ينقطع النفس، وإنما أراد من قال: النقد خير من النسيئة، إذا كانت النسيئة مثل النقد، وهذا غرور الكفار.
فأما ملابسو المعاصي مع سلامة عقائدهم، فإنهم قد شاركوا الكفار في هذا الغرور، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، إلا أن أمرهم أسهل من أمر الكفار، من جهة أن أصل الإيمان يمنعهم من عقاب الأبد.
ومن العصاة من يغتر، فيقول: إن الله كريم، وإنما نتكل على عفوه، وربما اغتروا بصلاح آبائهم.
وقد قال العلماء: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا الغفران مع الاصرار، فهو مغرور.
وليعلم أن الله تعالى مع سعة رحمته شديد العقاب، وقد قضى بتخليد الكفار في النار، مع أنه لا يضره كفرهم، وقد سلط الأمراض والمحن على خلق من عباده في الدنيا، وهو سبحانه قادر على إزالتها، ثم خوفنا من عقابه، فكيف لا نخاف؟!
فالخوف والرجاء سائقان يبعثان على العمل، وما لا يبعث على العمل فهو غرور. يوضح هذا أن رجاء أكثر الخلق يحملهم على البطالة، وإيثار المعاصي.
والعجب أن القرن الأول عملوا وخافوا، ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير واطمأنوا، أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرف الأنبياء والصالحون.
ولو كان هذا الأمر يدرك بالمنى، فلم تعب أولئك وكثر بكاؤهم؟! وهل ذم أهل الكتاب بقوله:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}[الأعراف: ١٦٩]، إلا لمثل هذا الحال؟!
وأما من اغتر بصلاح آبائه، فهلا يذكر قصة نوح عليه السلام مع ابنه، وإبراهيم عليه السلام مع أبيه، ومحمد مع عمه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى سائر النبيين.