السفر وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه، أو الوصول إلى مرغوب إليه.
والسفر سفران: سفر بظاهر البدن عن الوطن، وسفر بسير القلب عن أسفل سافلين إلى ملكوت السماوات، وهذا أشرف السفرين، فإن الواقف على الحالة التى نشأ عليها عقيب الولادة، الجامد على ما تلقفه بالتقليد من الآباء، لازم درجة القصور، قانع برتبة النقص، ومستبدل بمتسع عرضه السماوات والأرض ظلمة السجن وضيق الحبس.
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
إلا أن هذا السفر لما كان مقتحمه في خطر خطير، اندرست مسالكه.
فأما سفر البدن: فهو أقسام، وله فوائد وآفات عظيمة، فإنه يضاهي النظر في العزلة والمخالطة، وقد ذكرنا منهاج ذلك.
فالفوائد الباعثة عليه لا تخلو من هرب أو طلب، فالهرب إما من أمر له نكاية في الأمور الدنيوية، كالطاعون إذا ظهر ببلد، أو كخوف فتنة وخصومة، أو غلاء سعر.
وإما أمر له نكاية في الدين، كمن ابتلى في بلده بجاه أو مال أو اتساع أسباب، فصده عن التجرد لله تعالى، فيؤثر الغربة والخمول ويجتنب السعة والجاه، وكمن يُدعى إلى بدعة أو إلى ولاية عمل لا تحل مباشرته، فيطلب الفرار منه.
وأما المطلوب، فهو إما دنيوى كالمال والجاه، أو دينى كالعلم بأمور دينه، أو بأخلاقه في نفسه، أو بآيات الله في أرضه، وقلّ مذكور بالعلم محصل من زمان الصحابة رضى الله عنهم إلى زمانناً إلا وحصل العلم بالسفر وسافر لأجله.
وأما علمه بنفسه وأخلاقه، فذلك أيضاً مهم، فإن سلوك الآخرة لا يمكن إلا بتحسين الخلق وتهذيبه، وإنما سمى السفر سفراً، أنه يسفر عن الأخلاق.
وفى الجملة فالنفس في الوطن لا تظهر خبائث أخلاقهم لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة، فإذا حملت وعثاء السفر، وصرفت عن مألوفاتها المعتادة، ولامتحنت بمشاق الغربة، انكشفت غوائلها، ووقع الوقوف على عيوبها.