[كتاب ذم الجاه والرياء وعلاجهما وفضيلة الخمول وغير ذلك]
وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية". وهذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوف على غوائلها كبار العلماء، فضلاً عن عامة العباد، وإنما يبتلى بها العلماء والعباد المشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة، فإنهم لما قهروا نفوسهم وفطموها عن الشهوات، وحملوها بالقهر على أسباب العبادات، لم تطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فاستراحت إلى التظاهر بالعلم والعمل، ووجدت مخلصاً من شدة المجاهدة في لذة القبول عند الخلق، ونظرهم إليها بعين الوقار والتعظيم، فأصابت النفس في ذلك لذة عظيمة، فاحتقرت فيها ترك المعاصي، فأحدهم يظن أنه مخلص لله عز وجل، وقد أثبت في ديوان المنافقين، وهذه مكيدة عظيمة لا يسلم منها إلا المقربون.
ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة، وإذا كان هو الداء الدفين، الذي هو أعظم شبكة للشياطين، وجب شرح القول في سببه، وحقيقته وأقسامه.
اعلم: أن أصل الجاه هو حب انتشار الصيت والاشتهار، وذلك خطر عظيم، والسلامة في الخمول. وأهل الخير لم يقصدوا الشهرة، ولم يتعرضوا لها ولا لأسبابها، فإن وقعت من قبل الله تعالى، فروا عنها، وكانوا يؤثرون الخمول، كما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه خرج من منزله، فتبعه جماعة، فالتفت إليهم وقال: علام تتبعونى؟ فوالله لو علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان.
وفى لفظ آخر أنه قال: ارجعوا، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام.
وكان خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته، قام وانصرف كراهة الشهرة.
وقال الزهري رحمه الله: ما رأينا الزهد في شىء أقل منه في الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة، حامى عليها وعادى.