٣ ـ الفصل الثالث: في علامات مرض القلب وعوده إلى الصحة وبيان الطريق إلى معرفة الإنسان عيوب نفسه
اعلم: أن كل عضو خلق لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد تعذر البطش، ومرض العين تعذر الإبصار، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله، وهو العلم والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وعبادته، وإيثار ذلك على كل شهوة.
فلو أن الإنسان عرف كل شئ ولم يعرف الله سبحانه، كان كأنه لم يعرف شيئاً.
وعلامة المعرفة: الحب، فمن عرف الله أحبه، وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز -وقد سقطت عنها شهوة الخبز- مريضة.
ومرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، لأن دواءه مخالف الهوى، وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء والمرض قد استولى عليهم والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً، واندرس هذا العلم، وأنكر طب القلوب ومرضها بالكلية وأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات فهذه علامة أصل المرض.
وأما عافيته وعوده إلى الصحة بعد المعالجة، فهو أن ينظر إلى العلة، فإن كان يعالج داء البخل، فعلاجه بذل المال، ولكنه لا يسرف، ويصير إلى حد التبذير فيحصل داء آخر فيكون كمن يعالج البرودة بالحرارة الغالبة حتى تغلب الحرارة، فيكون داءً أيضاً، بل المطلوب الاعتدال.
وإذا أرادت أن تعرف الوسط، فانظر إلى نفسك، فإن كان إمساك المال وجمعه ألذ عندك، وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل، فعالج نفسك على البذل، وإن صار البذل للمستحق ألذ عندك، وأخف عليك من الإمساك فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الامساك، ولا تزال تراقب نفسك،