للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك، وأنسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا.

ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن لها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة وقال: "مالي وللدنيا؟ إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب قال (١) تحت الشجرة، ثم راح وتركها".

وقال عيس عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، والحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.

ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق.

وقيل: مثال طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شراباً ازداد عطشاً حتى يقتله.

وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.

مثال آخر: روى عن الحسن قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إنما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذ لم يدوروا ما سلكوا منها اكثر ما بقى، أنفذوا الزاد واخسروا الظهر، وابقوا بين ظاهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاء هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء، علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى. قال: عهودكم ومواثيقكم بالله. قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله، ثم قال: يا هؤلاء، الرحيل. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثر


(١) من القيلولة، وهى النوم في الظهيرة.

<<  <   >  >>