ومثال ذلك مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو غاية الجهل، ومذلة عظيمة، وغرور من الشيطان، ولذلك محك ومعيار، فينبغي أن يمتحن به المحتسب نفسه، أو باحتساب غيره عليه، أحب إليه من امتناعه باحتسابه، فإن كانت الحسبة شاقة عليه، ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يكفى بغيره، فليحتسب، فإن باعثه هو الدين، وإن كان الأمر بالعكس، فهو متبع هوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاهه بواسطة انكاره، فليتق الله وليحتسب أولاً على نفسه.
وقيل لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط. قيل: هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه السيف، قيل: هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه الداء الدفين: العجب.
الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن، وإنما يعدل إلى هذا عند العجز عن المنع باللطف، وظهور مبادئ الإصرار، والاستهزاء بالوعظ والنصح، ولسنا نعنى بالسب: الفحش والكذب، بل نقول له: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ألا تخاف الله، قال الله تعالى حاكية عن إبراهيم عليه السلام:{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء: ٦٧].
الدرجة الخامسة: التغيير باليد، ككسر الملاهى، وإراقة الخمر، وإخراجه من الدار المغصوبة، وفي الدرجة أدبان:
أحدهما: أن لا يباشر التغيير ما لم يعجز عن تكليف المنكر علي ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه الخروج عن الأرض المغصوبة، فلا ينبغي أن يجره ولا يدفعه.
والثاني: أن يكسر الملاهي كسراً يبطل صلاحيتها للفساد، ولا يزيد على ذلك ويتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، وإن لم يقدر إلا بأن يرمى ظروفها بحجر أو نحوه، فله ذلك، وتسقط قيمة الظرف، ولو ستر الخمر بيديه، فإنه يقصد بيديه بالضرب ليتوصل إلى إراقة الخمر، ولو كانت الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس، بحيث أنه إذا اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق فمنعوه، فله كسرها، لأن هذا عذر وكذلك إن كان يضيع الزمان في صبها، وتتعطل أشغاله، فله كسرها ولو لم يحذر من الفساق.