للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلم: أن الله تعالى إذا نعم على أخيك نعمة، فلك فيها حالتان:

إحداها: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، فهذا هو الحسد.

والحالة الثانية: أن لا تكره وجودها ولا تحب زوالها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة.

قال المصنف رحمه الله:

قلت: واعلم أنى ما رأيت أحداً حقق الكلام في هذا كما ينبغي، ولابد لى من كشفه فأقول:

اعلم: أن النفس قد جلبت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها، شق عليها وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع. وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن، والطِّيرة، والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ" (١).

وعلاج الحسد، تارة بالرضى بالقضاء، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب الآخرة، فيتسلى بذلك ولا يعمل بمقتضى ما في النفس أصلاً، ولا ينطق، فإذا فعل ذلك لم يضره ما وضع في جبلته.

فأما من يحسد نبياً على نبوته، فيجب أن لا يكون نبياً، أو عالماً على علمه، فيؤثر أن يرزق ذلك أو يزول عنه، فهذا لا عذر له، ولا تجبل عليه إلا النفوس الكافرة أو الشريرة، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك، فإنه لم

يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما، فأحب أحدهما أن يستبق. وقد قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦] (٢).

وفى "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم


(١) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الحسد" من حديث أبي هريرة، وفيه يعقوب بن محمد الزهري، وموسى بن يعقوب الزمعي ضعفهما الجمهور.
(٢) يقال نافست في الشيء منافسة، ونفاساً: إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم، وتنافسوا فيه، أي: رغبوا.

<<  <   >  >>