{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الدهر: ٢] فأحياه بعد الموت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدنيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه وقواه.
فمن هذا بدايته، فأي وجه لكبره وفخره؟
على أنه لو دام له الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق، بل قد سلط عليه الأخلاط المتضادة، والأمراض الهائلة، بينما بنيانه قد تم، إذ هو قد وهى وتهدم، لا يملك الشيء لنفسه ضراً ولا نفعاً، بينها هو يذكر الشيء فينساه، ويستلذ بشيء فيرديه، ويروم الشيء فلا يناله، ثم لا يأمن أن يسلب حياته بغتة.
هذا أوسط حاله، وذاك أول أمره، وأما آخر أمره، فالموت الذي يعده جماداً كما كان، ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنه، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، ويأكل الدود أجزاؤه، ويعود تراباً يعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، ثم بعد طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة، ويحضر عرصة القيامة، فيرى أرضاً مبدلة، وجبالاً مسيرة، وسماءً منشقة، ونجوماً منكدرة، وشمساً مكورة، وأحوالاً مظلمة، وجحيماً تزفر، وصحائف تنشر، ويقال له:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: ١٤]. فيقول: وما كتابي؟ فيقال: كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ملكان يحصيان ما تنطق به وتعمل من قليل وكثير، وقيام وقعود، وأكل وشرب، وقد نسيت ذلك، وأحصاه الله تعالى، فهلم إلى الحساب عليه، وأعد جواباً به، وإلا فأنت تساق إلى النار، فما لمن هذه حاله التكبر؟ فإن صار إلى النار، فالبهائم أحسن حالاً منه، لأنه تعود إلى التراب، ومن هذا حاله وهو على شك من العفو عن أخطائه، كيف يتكبر؟! ومن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة، وما مثله إلا كمثل رجل جنى على ملك جناية استحق أن يضرب لأجلها ألف سوط، فحبس في السجن ليخرج فيعاقب، وهو منتظر أن يدعى به لذلك. أفتراه يتكبر على أهل السجن؟ وهل الدنيا إلا سجن، وهل المعاصي إلا موجبة للعقاب؟.
وأما معرفة ربه، فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وعجائب صنعته، فتلوح له العظمة، وتظهر له المعرفة، فهذا هو العلاج القالع لأصل الكبر.
ومن العلاج العملي التواضع بالفعل لله تعالى ولعباده، وذلك بالمواظبة على استعمال خلق المتواضعين، وقد تقدمت الإشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه