ما لم يبحث، وأن من صدق الله ورسوله من غير تحرير دليل، فليس بكامل الإيمان، فلهذا الظن الفاسد قطعوا أعمارهم في تعلم الجدل والبحث عن المقالات، وعميت بصائرهم، فلم يلتفتوا إلى القرن الأول، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من البدع والهوى، فلم يجعلوا أعمارهم ودينهم عرضاً للخصومات والمجادلات، ولم يشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم، بل لم يتكلموا فيه إلا لضرورة رد الضلال، فان رأوه مصراً على بدعته هجروه من غير مماراة ولا جدل.
وقد روى في الحديث:"ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل".
وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب، من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص، وهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات وهم منفكون عنها أنهم من أهلها، فهؤلاء يدعون إلى الله وهم هاربون منه، فهم أعظم الناس غرة.
ومن هؤلاء من يعدل عن المنهاج الواجب في الوعظ إلى الشطح وتلفيق كلام خارج عن قانون الشرع والعقل طلباً للأغراب.
ومنهم من يستشهد بأشعار الوصال والفراق، وغرضهم أن يكثر الصياح مجالسهم والتواجد، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس.
ومنهم فرقة استغرقوا أوقاتهم في سماع الحديث، وجمع رواياته، وأسانيده الغريبة والعالية، فهم أحدهم أن يدور البلاد، ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروى عن فلان، ولقيت فلاناً، ولى من الإسناد ما ليس لغيري.
ومنهم فرقة اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر، وزعموا أنهم علماء الأمة، وأذهبوا أعمارهم في دقائق النحو واللغة، ولو عقلوا لعلموا أن مضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع عمره في معرفة لغة الترك، وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها، فيكفى من اللغة على الغريبين: غريب القرآن، والحديث، ومن النحو ما يقوم به اللسان.
فأما التعمق إلى درجات لا تتناهى، فذلك يشغل عما هو أجود منه وألزم.