لفنيت وبقيت جائعاً، فما أحوجك إلى عمل ينمى به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفي بتمام حاجتك، وهو زرعها، وهو أن تجعلها في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً، ثم لا يكفى الماء والتراب، إذ لو تركت في الأرض ندية صلبة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى تركها إلى أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليه بنفسه، فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء، وتصرفه بقهر على الأرض، حتى ينفذ فيها، ثم كل ذلك لا يغنى، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت.
ثم انظر إلى الماء الذي يحتاج إليها هذه الزراعة كيف خلقه الله تعالى؟ فجر العيون وأجرى منها الأنهار، ولما كان بعض الأرض مرتفعاً لا يناله الماء، أرسل إليها الغيوم، وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم، وهى سحب ثقال، ثم يرسله على الأرض مدراراً في وقت الحاجة.
وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء، تنفجر منها العيون تدريجاً، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره.
وانظر كيف سخر الشمس وخلقها، مع بعدها عن الأرض، مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه.
وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء، فهو مسخر لنوع فائدة، كما سخرت الشمس والقمر، ولا يخلو كل واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، وكذلك الشمس والقمر، فيهما حكم آخر غير ما ذكرنا لا تحصى.
ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار، وسلط عليهم الحرص على جمع المال، مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شئ، بل يجمعون الأموال، فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطرق، أو يموتون في بعض البلاد، فتأخذها السلاطين، وأحسن أحوالها أن يأخذها ورثتهم، وهم أشد أعدائهم لو عرفوا، فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة، حتى يقاسوا الشدائد في طلب الريح في ركوب البحار، وركوب الأخطار، فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى