للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليه اليأس والقنوط، فالرجاء أفضل. ويجوز أن يقال مطلقاً: الخوف أفضل، كما يقال: الخبز أفضل من السكنجبين لأن الخبز يعالج به مرض الجوع، والسكنجبين يعالج به مرض الصفراء، ومرض الجوع أغلب وأكثر، فالحاجة إلى الخبز أكثر، فهو أفضل بهذا الاعتبار، لأن المعاصي والاغترار من الخلق أغلب.

وإن نظرنا إلى موضع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأن الرجاء يستقي من بحر الرحمة، والخوف يستقي من بحر الغضب.

وإما المتقي، فالأفضل عنده اعتدال الخوف والرجاء، ولذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه، لاعتدلا.

قال بعض السلف: لو نودي: ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً، لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل. ولو نودي: ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً، لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل. وهذا ينبغي أن يكون مختصاً بالمؤمن المتقى.

فإن قيل: كيف اعتدال الخوف والرجاء في قلب المؤمن، وهو على قدم التقوى؟ فينبغي أن يكون رجاؤه أقوى.

فالجواب: أن المؤمن غير متيقن صحة عملهن فمثله مثل من بذر بذراً ولم يجرب جنسه في أرض غريبة، والبذر الإيمان، وشروط صحته دقيقة، والأرض القلب، وخفايا خبثه وصفائه من النفاق، وخبايا الأخلاق غامضة، والصواعق أهوال سكرات الموت، وهناك تضطرب العقائد، وكل هذا يوجب الخوف عليه، وكيف لا يخاف المؤمن؟

وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسأل حذيفة رضى الله عنه: هل أنا من المنافقين؟ وإنما خاف أن تلتبس حاله عليه، ويستتر عيبه عنه، فالخوف المحمود هو الذي يبعث على العمل، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا.

وأما عند نزول الموت، فالأصلح للإنسان الرجاء، لأن الخوف كالسوط الباعث على العمل، وليس ثمة عمل، فلا يستفيد الخائف حيئنذ إلا تقطيع نياط (١) قلبه، والرجاء في هذه الحال يقوى قلبه، ويحبب إليه ربه، فلا ينبغي لأحد أن يفارق الدنيا


(١) النياط: عرق علق به القلب من الوتين.

<<  <   >  >>