للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقتضي غاية المحبة لله عز وجل، فإن الإنسان إذا عرف ربه، عرف قطعاً أن وجوده ودوامه وكماله من الله، وأنه المخترع له، الموجد لذاته بعد أن كان عدماً محضاً لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل ولذلك قال الحسن البصري: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا، زهد فيها.

وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه، ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه.

السبب الثاني: أن الإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواسه، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه، وأعانه على جميع أغراضه، فإنه محبوب عنده لا محالة.

وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط. وأنواع إحسانه لا يحيط به حصر، كما قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: ٣٤، والنحل: ١٨].

وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في كتاب الشكر، ولكنا نبين أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز، وأن، المحسن في الحقيقة هو الله تعالى.

بيان ذلك أنا نفرض أن شخصاً أنعم عليك بجميع خزائنه وما يملك، ومكنك فيها لتتصرف كيف شئت، فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهو غلط، فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال. فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق إرادته وداعيته؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك، ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم لا يستطيع مخالفته. فالمحسن هو الذي اضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن أمير أمره أن يسلم إلى الإنسان خلعة خلعها عليه الأمير، فإن الخازن لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير، لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك. وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه، لم يبذل حبه من ماله حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقى في نفسه أن حظه في بذل ذلك فيبذله. فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذا الإحسان من غيره محال.

السبب الثالث: أن المحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فإنه إذا بلغك عن ملك من الملوك أنه عالم عادل عابد رفيق بالناس، متلطف بهم وهو في

<<  <   >  >>