للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال شريح ومسروق (١) والشعبي وعطاء ومجاهد، بمثل ما قال مالك، من إلزام أرباب المواشي ما أفسدت بالليل (٢)، ولا أعلم أحدا ممن تكلم في هذه الآية قال ما قاله أبو حنيفة وتشبيهه بالعجماء، والعجماء الدابة.

نا أحمد بن موسى قال: نا القعنبي قال: حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جُبَار والبئر جُبَار والمعدن جُبَار وفي الركاز الخمس) (٣) وطرق هذا الحديث كثيرة، وقال فيه سفيان بن حسين (٤)، عن الزهري بإسناده: (والرِجْل جُبَار) (٥) فهذا إنما أريد به ما جنت العجماء، مما لا صنع فيه للراكب، ألا ترى أن الراكب لو عنف، أو فعل فعلا وقعت منه جناية؛ لكان ضامنا، ولذلك ذكر القائد والسائق، ولم تختلف الرواية أن سليمان صلى الله عليه ضَمّنَ، وقد قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (٦) ولا اختلفت الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَمّنَ أرباب المواشي ما فعلته بالليل.

قال بكر: ورأيت أبا حنيفة يفعل في الحديث ما يفعله أهل الكلام، فيجعل بعضها معارضا لبعض، قد فعل هذا في غير شيء فمن ذلك: هذه القصة، فإنه لو هدي لرشده، لكان جرح العجماء في الدابة وفعلها في الطريق تحت راكبها، وحَكم في المواشي بالليل بما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ وجد لكل حديث معنى غير الآخر وقدر على العمل بهما.

وكذلك قال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من باع نخلا قد أُبِّرت فثمرها للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) (٧) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه) (٨) فجَعَلَ الخبرين متعارضين، وليس كما ظن، إنما نهي عن بيع التمر منفردا؛ لأنهما قصدا إلى الغرر ما لم يبد الصلاح، إذ لا منفعة للمشتري فيه، فإذا بدا صلاحه قارن الغرر والترفق (٩) (١٠) وإذا بيع مع النخل فإنما هو بيع لغيره، والمقصود غيره، ولم يعمد

المتبايعان الغرر، وإنما نهي عن الغرر المقصود.


(١) هو: مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي، أبو عائشة الكوفي، كان رحمه الله عابدا فقيها في عداد أصحاب ابن مسعود، توفي بالكوفة سنة ٦٣ هـ. ينظر: طبقات ابن سعد (٦/ ٣٩٨) وتهذيب التهذيب (٥/ ٣٩٦).
(٢) أخرجه عبد الرزاق [١٠/ ٨١ كتاب العقول، باب الزرع تصيبه الماشية] وابن أبي شيبة [٥/ ٤٦١ كتاب الديات، الدابة والشاة تفسد الزرع] والطبري في تفسيره (٩/ ٥١) والبيهقي [٨/ ٣٤٢ باب التعدي والاطلاع، باب الضمان على البهائم] عن شريح القاضي.
وأخرجه عبد الرزاق ـ الإحالة السابقة ـ عن عطاء ومسروق ومجاهد.
وأخرجه عبد الرزاق [١٠/ ٨٣ كتاب العقول، باب الزرع تصيبه الماشية] والبيهقي ـ الإحالة السابقة ـ عن الشعبي.
(٣) أخرجه البخاري [١٤٢٨ باب وفي الركاز الخمس] عن مالك، به.
وأخرجه مسلم [٣/ ١٠٧٧ كتاب الحدود] عن ابن شهاب، به.
(٤) هو: سفيان بن حسين بن حسن، أبو محمد الواسطي، قال ابن معين: ثقة في غير حديث الزهري، مات بالري في أول خلافة الرشيد. ينظر: طبقات ابن سعد (٧/ ١٥٤) وتهذيب التهذيب (٢/ ٣٥٣).
(٥) تقدم تخريجه ص ١٠٥.
(٦) سورة الأنعام (٩٠).
(٧) أخرجه مالك [٢/ ٤٨١ كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمر المال يباع أصله] من حديث ابن عمر، به.
وأخرجه البخاري [٥٤٥ كتاب الشروط، باب إذا باع نخلا قد أُبّرَ] عنه، بنحوه.
قوله: قد أبرت قال ابن حجر في الفتح (٤/ ٤٦٩) " وقوله: أبرت، بضم الهمزة وكسر الموحدة مخففا على المشهور ومشددا والراء مفتوحة، يقال أبرت النخل آبره ابرا بوزن أكلت الشيء آكله أكلا ... والتأبير: التشقيق والتلقيح، ومعناه شق طلع النخلة الأنثى، ليذر فيه شيئا من طلع النخلة الذكر " أ. هـ.
(٨) روى هذا الحديث أصحاب الصحاح والسنن عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة، منها ما أخرجه مسلم [٣/ ٩٤٤ كتاب البيوع] عن جابر بن عبد الله بلفظه، لكن في أوله نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(٩) قال في اللسان، مادة: رفق: " الرِّفْق: ضد العنف، ورفق بالأمر وله وعليه ... لطف، ورفق بالرجل وأَرْفقَه بمعنى، وكذلك ترفق به ".
(١٠) لوحة رقم [٢/ ١٨٤].

<<  <   >  >>