للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المقذوف بالحد فجلد، وجب فيه حكم الله، بأن لا تقبل شهادته أبدا، وأنه من الفاسقين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} (١) فالاستثناء واقع على ذلك كله.

وإنما قيل: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (٢) لأنه من الفاسقين، نعت استحق أن ينعت به لِمَا كان منه، فإذا زال النعت عنهم وجب على الحاكم قبول شهادتهم؛ لأن شهادتهم إنما سقطت للوصف الذي وصفهم الله تبارك وتعالى به، وليس بوصف الإنسان بالفسق لأن الحاكم لا يقبل شهادته، وإذا وقع عليه اسم الفسق وجب على الحاكم رد شهادته؛ لأن اسم الفسق توجبه أفعال الفاسق لا أفعال غيره فيه.

فأما قولهم: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} (٣) إنما يقع على زوال اسم الفسق خاصة، ولا يقع على قبول الشهادة، فشيء لا تقوم به حجة من كتاب ولا سنة ولا قياس، والنظر يوجب؛ أن من أزال الله ـ تبارك وتعالى ـ عنه الفسق، وغفر له ورحمه مقبول القول؛ لأنه لا يبلغ أحد من العدالة أكثر من هذه الصفة.

وقد قال الله ـ عز وجل ـ في المحارب: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (٤) فقد يمكن أن يقول قائل: إنما وقع الاستثناء عن إزالة العذاب العظيم عنهم في الآخرة، وأما ما وجب في الدنيا من المحدود فثابت، ولا يجعل الاستثناء واقعا على جميع الكلام، وهذا ما لا يقوله أحد، فإن من غفر الله له ورحمه فقد زال عنه كل عقوبة من عقوبات الدنيا والآخرة، وهو مرضي عدل، وقد جاء أن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (٥) فلا بد أن يكون التائب من القذف ـ الذي قد ثبت حكمه ـ كمن لم يقذف، إذ قد أقيم عليه الحد الذي صار به قاذفا بغير شبهة.

قال سعيد بن المسيب: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما جلد أبا بكرة (٦) وشبل بن معبد ونافعا (٧) قَذَفَة المغيرة (٨) قد استتابهم بعد الجلد، وقال لهم: من تاب منكم قبلت شهادته، قال سعيد: فتاب منهم اثنان، وأبى أبو بكرة، فكانت لا تجوز شهادته (٩).


(١) سورة النور (٥).
(٢) سورة النور (٤)، في الأصل: لا تقبلوا له.
(٣) سورة النور (٥).
(٤) سورة المائدة (٣٣، ٣٤).
(٥) أخرجه ابن ماجه [٢/ ٤٣٨ كتاب الزهد، باب ذكر التوبة] والطبراني في الكبير (١٠/ ٢٨١) والشهاب في مسنده (١/ ٩٧) والبيهقي [١٠/ ١٥٤ كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف] عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود.
ورواه البيهقي ـ الإحالة السابقة ـ عن ابن أبي مريم عن عبد الله، وضعفه، وكذلك الذهبي في لسان الميزان (٦/ ٢٥٢) وحسنه ابن حجر في الفتح (١٣/ ٤٨٠) واختلف كلام الألباني فضعفه في الضعيفه (٦١٦) وحسنه في صحيح ابن ماجه (٣٤٢٧) وصحيح الجامع (٣٠٠٨) وكذلك صحيح الترغيب (٣١٤٥).
ورواه البيهقي ـ الإحالة السابقة ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذا إسناد فيه ضعف، ... ورواه ـ أيضا ـ عن أبي عتبة الخولاني، فرفعه.
ورواه ابن الجعد (٢٦٦) عن الشعبي، موقوفا عليه.
(٦) هو: نُفَيع بن الحارث بن كلدة الثقفي مولاهم، أبو بكرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، آخى بينه وبين أبي برزة الأسلمي، توفي بالبصرة سنة ٥٠ هـ. ينظر: طبقات ابن سعد (٧/ ١٠) والإصابة (٦/ ٣٦٩).
(٧) هو: نافع بن الحارث بن كلدة بن عمر الثقفي مولاهم، أبو عبد الله البصري، أخو أبي بكر لأمه، قيل: إنه أول من بنى دارا بالبصرة، وأول من اقتنى الخيل بها. ينظر: طبقات ابن سعد (٧/ ٣٥) والإصابة (٦/ ٣١٩).
(٨) هو: المغيرة بن شعبة بن مسعود، أبو عيسى الثقفي، أسلم قبل عمرة الحديبية، كان يقال له مغيرة الرأي، وكان من دهاة العرب، ولاه عمر البصرة، مات سنة ٥٠ هـ ينظر: طبقات ابن سعد (٤/ ٤٦١) والإصابة (٦/ ١٥٦).
(٩) أخرجه البيهقي [١٠/ ١٥٢ كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف] بنحوه.

<<  <   >  >>