للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا ترى الله * تبارك وتعالى لم يجعل التوبة للسارق والزاني بمسقط عنهما الحد، وجعل التوبة للمحارب مسقطة للحد فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (١) فلما كان الزاني والسارق يستسران بفعلهما لم يجز العفو عن حدهما، وجاز العفو عمن أظهر فعله؛ لأن المستسر بفعله تأسره البينة، فلو جعلت له التوبة لكان يقولها من غير نية، ولو أرادها لأتى قبل أن يؤسر فقال: كنت على كذا وقد تبت، فيكون كأنه رجل كفر وأظهر كفره وإنما توبته بعد الأسر إرادة إزالة الحد عن نفسه، ألا ترى الله عز وجل إذ يقول: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} (٢) فلو قبلت توبته كثرت الزنادقة، وأمنوا العقوبة بكلمة يقولها إذا رأى السيف، ثم يعود مستسراً بفعله، والمظهر لكفره لا يعود لإظهاره؛ إذ لنا من الناس ما ظهر (٣)، ولذلك قال (٤)


(١) [سورة المائدة: الآية ٣٤]
(٢) [سورة غافر: الآيتان ٨٤ - ٨٥]
(٣) قال القرطبي: احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته؛ لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتداً. قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائباً قبل أن يشهد عليهما، قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب فكذلك هذان. [الجامع لأحكام القرآن: ٢/ ٤٩].
(٤) في الأصل (ما قال) والصواب ما أثبت، فإن مذهب المالكية أن قتل الغيلة لا عفو فيه.
قال الإمام مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه أن من قتل رجلاً قتل غيلة، على غير ثائرة ولا عداوة، فإنه يقتل به، وليس لولاة المقتول أن يعفو عنه، وذلك إلى السلطان يُقْتَلُ به القاتل، وذلك أحب الأمر إلي.
[الموطأ برواية أبي مصعب: ٢/ ٢٤٨ كتاب العقل].

<<  <   >  >>