(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (نَنْسَأْهَا) بفتح النون والسين مع الهمزة، وقرأ الباقون (نُنْسِهَا) بضم النون وكسر السين من غير همزة. [السبعة: ١٦٨، والنشر: ٢/ ١٦٥] فأما قراءة ابن كثير وأبي عمرو (ننسأها) ففسرت على التأخير، أي: نؤخرها، وتأخير النسخ على وجهين: ١ - أن يؤخر التنزيل فلا ينزل البتة، ولا يعلم ولا يعمل به، ولا يتلى، فيكون معنى الآية: نؤخر إنزالها فلا نُنزلها. ٢ - أن يُنزل القرآن فيعمل به ويتلى، ثم يُؤخر فينسخ العمل به دون اللفظ، أو ينسخ العمل به واللفظ، أو ينسخ اللفظ ويبقى العمل. وقد قرأ بهذه القراءة: عمر بن الخطاب، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وأبي بن كعب، وعبيد بن عمير، والنخعي، وابن محيصن. وأما قراءة الباقين (ننسها) فهي من النسيان، فإن لفظ (نسي) المنقول منه (أُنسي) على ضربين: أحدهما: أن يكون بمعنى الترك، والآخر: النسيان الذي هو مقابل الذكر. والصحيح أنه من النسيان الذي هو ضد الذكر. قال أبو علي الفارسي في معرض رده على الفراء: فأما قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فمنقول من نسيتُ الشيء: إذا لم تذكره، قال الفراء: والنسيان هنا على وجهين: أحدهما: على الترك، نتركها ولا ننسخها. والوجه الآخر: من النسيان كما قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: ٢٤] قال أبو علي: قول الفراء نتركها ولا ننسخها، لايستقيم هنا، وإنما هو من النسيان الذي ينافي الذكر، ألا ترى أنه قد قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وليس كل ما أُخرتْ فلم تنسخ ولم يبدل حكمها يؤتى بخير من المنسوخة بآية أو المنساة، وليس المعنى: ما ننسخ من آية أو نقرها فلا ننسخها نأت بخير منها، إنما المعنى: أنا إذا رفعناها من جهة النسخ بآية، أو الإنساء، أتينا بخير من التي ترفع وتبدل على أحد هذين الوجهين. وقال مكي بن أبي طالب: والأقوى البيّن أن يكون من النسيان الذي هوضد الذكر، فيكون المعنى: إذا رفعنا آية بنسخ، أو بنسيان نقدره عليك يا محمد، أتينا بخير منها في الصلاح لكم، أو بمثلها في التعبد، ويدل على أنه من النسيان قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: ٦، ٧] فقد أعلمه الله أنه لا ينسى شيئاً مما نزل عليه، إلا ما شاء الله أن ينساه. = ثم قال: وأيضاً فإن (تنسى) الذي بمعنى الترك لم يستعمل (أفعل) إنما استعمل فيه (فعل) فكان يجب أن تكون القراءة بفتح النون الأولى والسين، ولم يأت ذلك. والاختيار (ننسها) من النسيان؛ لصحة المعنى؛ ولأن جماعة القراء عليه، وبه قرأ ابن المسيب، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر يزيد، وشيبة، والضحاك، وابن أبي إسحاق، وعيسى، والأعمش. [انظر إعراب القرآن للنحاس: ١/ ٧٣، الحجة للقراء السبعة: ١/ ٣٦٠ - ٣٦٤، والكشف عن وجوه القراءات: ١/ ٢٥٨ - ٢٦٠]. وممن اختار قراءة (ننسها) أبوعبيد، وابن جرير، ومكي بن أبي طالب. [الناسخ والمنسوخ: ١١، وتفسير ابن جرير: ١/ ٤٧٨، والكشف: ١/ ٢٥٩].