وقال قتادة رحمه اللَّه:{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت: ١٧](١)؛ أي: آثَروها.
وقيل: أي: اختاروها.
وقيل: أي: استبدَلوها، وهو كقوله:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ}[البقرة: ١٠٨].
ثم هذا على قول الذين قالوا: إن الآية في اليهود، يرجع إلى قوله:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة: ٨٩]، فكان هذا استبدالًا منهم الضَّلالةَ بالهدى.
وعلى قولِ مَن جعلها في حقِّ المنافقين -وهم لم يكونوا في الهدى قطُّ- فمعناه: أخذوا النِّفاق وتركوا الإخلاص أصلًا، لا أنِ استبدَلوا الضَّلالةَ بالهدى، وهذا كما في قوله تعالى:{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة: ٢٥٧]، وفي حقِّ الكفار:{يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، ليس هذا بطريق النقل، بل بالإبقاء على الأصل.
ثم هذا مجازٌ، وهو مُتعارَفُ أهلِ اللسان، وهو أبلغُ في البيان، وأوقَعُ في القلوب والآذان، وهو كثيرٌ في القرآن، قال تعالى:{فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان: ٢٣]، وقال تعالى:{لَمَّا طَغَى الْمَاءُ}[الحاقة: ١١]، وقال عزَّ وعلا:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}[يس: ٣٧]، وقال تعالى:{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}[الزخرف: ٤٨]، وقال تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}[البقرة: ٢٢٣]، وقال هاهنا:{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}[البقرة: ١٦].
وأصله في استبدالِ مالٍ بمالٍ، واستُعير في الهدى والضلال، والجامعُ بينهما