تَأْصِيلَ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ دَلَالَةً قَوِيَّةً أَنَّ الذَّبْحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ شَرْطٌ آخَرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِجْزَاءُ الذَّبْحِ لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ فَرْضَهُ التَّبْيِينُ.
وَنَصُّ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» .
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ وَهُوَ: مَتَى يَذْبَحُ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى؟
فَقَالَ مَالِكٌ: يَتَحَرَّوْنَ ذَبْحَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَرَّوْنَ قَدْرَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ وَيَذْبَحُونَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ ذَبَحَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ ; وَقَالَ قَوْمٌ: بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي فَرْعٍ آخَرَ وَهُوَ: إِذَا لَمْ يَذْبَحِ الْإِمَامُ فِي الْمُصَلَّى، فَقَالَ قَوْمٌ: يُتَحَرَّى ذَبْحُهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ يَجِبُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا آخِرُ زَمَانِ الذَّبْحِ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: آخِرُهُ: الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَذَلِكَ مَغِيبُ الشَّمْسِ. فَالذَّبْحُ عِنْدَهُ هُوَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْأَضْحَى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْأَضْحَى يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ خَاصَّةً. وَقَدْ قِيلَ: الذَّبْحُ إِلَى آخِرِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ شَاذٌّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَرْوِيَّةٌ عَنِ السَّلَفِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ مَا هِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: ٢٨] ؟ فَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» . فَمَنْ قَالَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ: إِنَّهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; وَرَجَّحَ دَلِيلَ الْخِطَابِ فِيهَا عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ " لَا نَحْرَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ". وَمَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ وَقَالَ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا إِذِ الْحَدِيثُ اقْتَضَى حُكْمًا زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْآيَةِ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَحْدِيدَ أَيَّامِ الذَّبْحِ ; وَالْحَدِيثُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ذَلِكَ قَالَ: يَجُوزُ الذَّبْحُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِذْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.