وَالثَّانِي: مَذْهَبُ مَنْ يَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ التَّغَيُّرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ يَمُرُّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ يُعْتَبَرُ فِيهَا تَغَيُّرُهَا بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَا تَغَيُّرُهَا بِهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ وَهُمُ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ بِنَفْسِ مُخَالَطَةِ النَّجِسِ يَنْجُسُ الْحَلَالُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّلْ لَهُمُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا؛ لِوُجُودِ الْمُخَالَطَةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَكْثَرَ، أَعْنِي فِي حَالَةِ الذَّوَبَانِ. وَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُخَالَطَةِ الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا فَكَأَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا مِنْ بَعْضِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْ بَعْضِهِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّتْهُ الظَّاهِرِيَّةُ كُلَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَيْنِهَا فَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ مِنْهَا عَلَيْهِ فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ: لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالدَّمِ. فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ وَلَحْمِهِ وَجِلْدِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ وَفِي طَهَارَةِ جِلْدِهِ مَدْبُوغًا وَغَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي دَمِ الْحُوتِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ نَجِسًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَهُ نَجِسًا. وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَخَارِجًا عَنْهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مُعَارَضَةُ الْإِطْلَاقِ لِلتَّقْيِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: ٣]- يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَسْفُوحِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: ١٤٥]- يَقْتَضِي بِحَسَبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ تَحْرِيمَ الْمَسْفُوحِ فَقَطْ.
فَمَنْ رَدَّ الْمُطْلَقَ إِلَى الْمُقَيَّدِ اشْتَرَطَ فِي التَّحْرِيمِ السَّفْحَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي حُكْمًا زَائِدًا عَلَى التَّقْيِيدِ، وَأَنَّ مُعَارَضَةَ الْمُقَيَّدِ لِلْمُطْلَقِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ، وَالْعَامُّ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ - قَضَى بِالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَالَ: يَحْرُمُ قَلِيلُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ.
وَالسَّفْحُ الْمُشْتَرَطُ فِي حُرْمِيَّةِ الدَّمِ إِنَّمَا هُوَ دَمُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى، أَعْنِي أَنَّهُ الَّذِي يُسِيلُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَلَالِ الْأَكْلِ. وَأَمَّا أَكْلُ دَمٍ يَسِيلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُحَرَّمِ الْأَكْلِ، وَإِنْ ذُكِّيَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَمِ الْحُوتِ فَمُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ، أَمَّا الْعُمُومُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالدَّمُ) . وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ كَوْنِ الدَّمِ تَابِعًا فِي التَّحْرِيمِ لِمَيْتَةِ الْحَيَوَانِ، أَعْنِي أَنَّ مَا حَرُمَ مَيْتَتُهُ حَرُمَ دَمُهُ، وَمَا حَلَّ مَيْتَتُهُ حَلَّ دَمُهُ. وَلِذَلِكَ رَأَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute