للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» .

قَالُوا: فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا قَدْرَ لِأَقَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَدْرٌ لَبَيَّنَهُ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بَيِّنٌ كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْدِيدِ لَيْسَ تَسْلَمُ مُقَدِّمَاتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ انْبَنَى عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ عِبَادَةٌ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ مُؤَقَّتَةٌ.

وَفِي كِلَيْهِمَا نِزَاعٌ لِلْخَصْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُلْفَى فِي الشَّرْعِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَيْسَتْ مُؤَقَّتَةً، بَلِ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَبَهُ الْعِبَادَاتِ خَالِصًا، وَإِنَّمَا صَارَ الْمُرَجِّحُونَ لِهَذَا الْقِيَاسِ عَلَى مَفْهُومِ الْأَثَرِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَثَرُ خَاصًّا بِذَاكَ الرَّجُلِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَهَذَا خِلَافٌ لِلْأُصُولِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ: «قُمْ فَعَلِّمْهَا» ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَامَ فَعَلَّمَهَا، فَجَاءَ نِكَاحًا بِإِجَارَةٍ.

لَكِنْ لَمَّا الْتَمَسُوا أَصْلًا يَقِيسُونَ عَلَيْهِ قَدْرَ الصَّدَاقِ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا أَقْرَبَ شَبَهًا بِهِ مِنْ نِصَابِ الْقَطْعِ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: عُضْوٌ مُسْتَبَاحٌ بِمَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا، أَصْلُهُ الْقَطْعُ. وَضَعْفُ هَذَا الْقِيَاسِ هُوَ مِنْ قِبَلِ الِاسْتِبَاحَةِ فِيهِمَا هِيَ مَقُولَةٌ بِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْوَطْءِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَطْعَ اسْتِبَاحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى وَنَقْصُ خِلْقَةٍ، وَهَذَا اسْتِبَاحَةٌ عَلَى جِهَةِ اللَّذَّةِ وَالْمَوَدَّةِ.

وَمِنْ شَأْنِهِ قِيَاسُ الشَّبَهِ عَلَى ضَعْفِهِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بِهِ تَشَابَهَ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ شَيْئًا وَاحِدًا لَا بِاللَّفْظِ بَلْ بِالْمَعْنَى، وَأَنَّ يَكُونَ الْحُكْمُ إِنَّمَا وُجِدَ لِلْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ الشَّبَهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْدُومٌ فِي هَذَا الْقِيَاسِ. وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ مِنَ الشَّبَهِ الَّذِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، لَكِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا الْقِيَاسَ فِي إِثْبَاتِ التَّحْدِيدِ الْمُقَابِلِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ؛ إِذْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي تَعْيِينِ قِدْرِ التَّحْدِيدِ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي مُعَارَضَةِ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَيَشْهَدُ لِعَدَمِ التَّحْدِيدِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ «أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا» . وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَلَمَّا اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْدِيدِ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِصَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>