وَإِنَّمَا صَارَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّمْلِيكَ وَاحِدٌ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ مِنْ عُرْفِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَنْ مَلَّكَ إِنْسَانًا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ فَإِنَّهُ قَدْ خَيَّرَهُ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَيَرَى أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ أَنَّهُ ظَاهِرٌ بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ بِتَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ الْبَيْنُونَةَ، وَإِنَّمَا رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا إِذَا زَعَمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِهَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ عِنْدَهُ نَصًّا اعْتَبَرَ فِيهِ النِّيَّةَ.
فَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يُغَلَّبُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْ دَعْوَى النِّيَّةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي التَّخْيِيرِ. وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَهُ مُنَاكَرَتَهَا فِي الْعَدَدِ: أَعْنِي: فِي لَفْظِ التَّمْلِيكِ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً مُحْتَمَلَةً فَضْلًا عَنْ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا رَأَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بِتَمْلِيكِهِ إِيَّاهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ. وَإِنَّمَا رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا بَائِنَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ لَمْ يَكُنْ لِمَا طَلَبَتْ مِنَ التَّمْلِيكِ فَائِدَةٌ وَلِمَا قَصَدَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي التَّمْلِيكِ ثَلَاثًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا فِي ذَلِكَ: فَلِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ تَصْيِيرُ جَمِيعِ مَا كَانَ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنَ الطَّلَاقِ بِيَدِ الْمَرْأَةِ، فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ فِيمَا تُوقِعُهُ مِنْ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ التَّمْلِيكَ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَقَطْ أَوِ التَّخْيِيرَ: فَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَاحْتِيَاطًا لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ بِأَيْدِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ هُوَ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِنَّ مَعَ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ لِقَوْلِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ، فَيَتَحَصَّلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَقَعُ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ.
وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ فِيمَا تُمَلَّكُ بِهِ الْمَرْأَةُ - أَعْنِي: أَنْ تُمَلَّكَ بِالتَّخْيِيرِ الْبَيْنُونَةَ، وَبِالتَّمْلِيكِ مَا دُونَ الْبَيْنُونَةِ -. وَإِذَا قُلْنَا بِالْبَيْنُونَةِ، فَقِيلَ: تَمْلِكُ وَاحِدَةً، وَقِيلَ تَمْلِكُ الثَّلَاثَ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهَا تَمْلِكُ وَاحِدَةً فَقِيلَ: رَجْعِيَّةٌ، وَقِيلَ: بَائِنَةٌ. وَأَمَّا حُكْمُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُجِيبُ بِهَا الْمَرْأَةُ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي كَوْنِهَا صَرِيحَةً أَوْ كِنَايَةً أَوْ مُحْتَمَلَةً، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّكَلُّمِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute