بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَلَا تَظْهَرُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ جَائِحَةٌ تُتَوَقَّعُ، وَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الثَّمَرِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَالْإِطْلَاقُ عِنْدَهُمْ كَمَا قُلْنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ خِلَافُ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ نَفْسَ بَيْعِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَهُ وَإِلَّا لَحِقَهُ الْغَرَرُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ الْأَعْيَانُ إِلَى أَجَلٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الثِّمَارِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، لِكَوْنِ الثَّمَرِ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَيْبَسَ كُلُّهُ دُفْعَةً، فَالْكُوفِيُّونَ خَالَفُوا الْجُمْهُورَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ. وَالثَّانِي: فِي مَنْعِ تَبْقِيَتِهَا بِالشَّرْطِ بَعْدَ الْإِزْهَاءِ، أَوْ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَخِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَقْوَى مِنْ خِلَافِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي (أَعْنِي: فِي شَرْطِ الْقَطْعِ وَإِنْ أُزْهِيَ) ، وَإِنَّمَا كَانَ خِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَقْرَبَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَأَمَّا بُدُوُّ الصَّلَاحِ الَّذِي جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْعَ بَعْدَهُ، فَهُوَ أَنْ يَصْفَرَّ فِيهِ الْبُسْرُ، وَيَسْوَدَّ فِيهِ الْعِنَبُ إِنْ كَانَ مِمَّا يَسْوَدُّ، وَبِالْجُمْلَةِ أَنْ تَظْهَرَ فِي الثَّمَرِ صِفَةُ الطِّيبِ، هَذَا هُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُزْهِيَ، فَقَالَ: حَتَّى يَحْمَرَّ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَالْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ لَا يَبِيعُ ثِمَارَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، وَذَلِكَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ أَيَارَ وَهُوَ مَايُو، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا " سُئِلَ عَنْ «قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَاتِ» ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَلِكَ وَقْتُ طُلُوعِ الثُّرَيَّا " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ صَبَاحًا رُفِعَتِ الْعَاهَاتُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ» ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ الْحَائِطُ، وَإِنْ لَمْ يَزْهَ إِذَا أَزْهَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْحِيطَانِ إِذَا كَانَ الزَّمَانُ قَدْ أُمِنَتْ فِيهِ الْعَاهَةُ، يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - طُلُوعَ الثُّرَيَّا، إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَائِطٌ حَتَّى يَبْدُوَ فِيهِ الزَّهْوُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِزْهَاءِ طُلُوعُ الثُّرَيَّا. فَالْمُحَصَّلُ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ الْإِزْهَاءُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ طُلُوعُ الثُّرَيَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَائِطِ فِي حِينِ الْبَيْعِ إِزْهَاءٌ; وَقَوْلٌ: الْأَمْرَانِ جَمِيعًا. وَعَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute