حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ " فَعُلِمَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ، وَأَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَلَمَّا ظَهَرَ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا خَوْفُ مَا يُصِيبُ الثِّمَارَ مِنَ الْجَائِحَةَ غَالِبًا قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ الزَّهْوِ «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» لَمْ يَحْمِلِ الْعُلَمَاءُ النَّهْيَ فِي هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ (أَعْنِي: النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ) بَلْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ هُوَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى الْإِزْهَاءِ، فَأَجَازُوا بَيْعَهَا قَبْلَ الْإِزْهَاءِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَرَدَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالِ: هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْقَطْعِ وَهُوَ الْجَائِزُ، أَوْ عَلَى التَّبْقِيَةِ الْمَمْنُوعَةِ؟ فَمَنْ حَمَلَ الْإِطْلَاقَ عَلَى التَّبْقِيَةِ، أَوْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ قَالَ: لَا يَجُوزُ; وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقَطْعِ قَالَ: يَجُوزُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَطْعِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَحُجَّتُهُمْ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ مُطْلَقًا قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهَا الْمُبْتَاعُ» ، قَالُوا: فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ جَازَ بِيعُهُ مُفْرَدًا، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ عَلَى النَّدْبِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ: أَصَابَ الثَّمَرَ الزَّمَانُ، أَصَابَهُ مَا أَضَرَّ بِهِ قُشَامٌ وَمُرَاضٌ (لِعَاهَاتٍ يَذْكُرُونَهَا) ، فَلَمَّا كَثُرَتْ خُصُومَتُهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ قَالَ كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا عَلَيْهِمْ: لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» ، وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ: «حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» هُوَ ظُهُورُ الثَّمَرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» . وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرَى رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ بَيْعِ الثِّمَارِ الْقَطْعَ أَنْ يُجِيزَ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى شَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَالْجُمْهُورُ يَحْمِلُونَ جَوَازَ بَيْعِ الثِّمَارِ بِالشَّرْطِ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ (أَعْنِي: إِذَا بِيعَ الثَّمَرُ مَعَ الْأَصْلِ) . وَأَمَّا شِرَاءُ الثَّمَرِ مُطْلَقًا بَعْدَ الزَّهْوِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْإِطْلَاقُ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ يَقْتَضِي التَّبْقِيَةَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنْعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ..» الْحَدِيثَ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ الْجَوَائِحَ إِنَّمَا تَطْرَأُ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَأَمَّا بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute