وَلَمْ يُجِزْهُ الشَّافِعِيُّ إِلَّا مَقْلُوعًا، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُغَيَّبِ; وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالْبَاقِلَّا فِي قِشْرِهِ، أَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ مِنَ الْغَرَرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْبُيُوعِ أَمْ لَيْسَ مِنَ الْمُؤَثِّرِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَنَّ الْغَرَرَ يَنْقَسِمُ بِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُؤَثِّرِ هُوَ الْيَسِيرُ أَوِ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، أَوْ مَا جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْغَدِيرِ، أَوِ الْبُرْكَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا أَحْسَبُ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِي أُصُولُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الْآبِقِ أَجَازَهُ قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ ; وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ مَعْلُومَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي جَازَ، وَأَظُنُّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْإِبَاقِ وَيَتَوَاضَعَانِ الثَّمَنَ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي) ، لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ عِنْدَ الْعَقْدِ بَيْنَ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ يَمْنَعُ بِهِ النَّقْدَ فِي بَيْعِ الْمُوَاضَعَةِ وَفِي بَيْعِ الْغَائِبِ غَيْرِ الْمَأْمُونِ، وَفِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَعَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ شِرَاءِ مَا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِرَاءِ الْغَنَائِمِ حَتَّى تُقَسَّمَ» ، وَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ لَبَنِ الْغَنَمِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً إِذَا كَانَ مَا يُحْلَبُ مِنْهَا مَعْرُوفًا فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ; وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ بَعْدَ الْحَلْبِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنَعَ مَالِكٌ بَيْعَ اللَّحْمِ فِي جِلْدِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الْمَرِيضِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْئُوسًا مِنْهُ; وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ، وَالصَّوَّاغِينَ، فَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ تُرَابِ الْمَعْدِنِ بِنَقْدٍ يُخَالِفُهُ، أَوْ بِعَرَضٍ، وَلَمْ يُجْزِ بَيْعَ تُرَابِ الصَّاغَةِ; وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ الْبَيْعَ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا; وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
فَهَذِهِ هِيَ الْبُيُوعُ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا، أَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ بِالْكَيْفِيَّةِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْكَمِّيَّةِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مِنَ الْمَكِيلِ، أَوِ الْمَوْزُونِ، أَوِ الْمَعْدُودِ، أَوِ الْمَسْمُوحِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي; وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِبَلِ الْكَيْلِ الْمَعْلُومِ، أَوِ الصُّنُوجِ الْمَعْلُومَةِ مُؤَثِّرٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَفِي كُلِّ مَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمَكِيلَةِ وَالْمَوْزُونَةِ، وَالْمَعْدُودَةِ، وَالْمَمْسُوحَةِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِمَقَادِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْحَزْرِ، وَالتَّخْمِينِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْجُزَافَ يَجُوزُ فِي أَشْيَاءَ وَيُمْنَعُ فِي أَشْيَاءَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute