وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ يَسْتَدِينُ مَالًا فَيَتَّجِرُ بِهِ مَعَ مَالِ الْقِرَاضِ، فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا. وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمُقَارَضَةِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنًا فِيهَا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ إِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ. وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ غَالِبًا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ.
فَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّصَرُّفَ بِالدَّيْنِ خَارِجٌ عَمَّا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْأَغْلَبِ لَمْ يُجِزْهُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِمَّا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ أَجَازَهُ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ فِي الْعَامِلِ يَخْلِطُ مَالَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَا عَدَا مَالِكًا: هُوَ تَعَدٍّ، وَيَضْمَنُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِتَعَدٍّ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْمَشَاهِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ الْعَامِلُ رَأْسَ مَالِ الْقِرَاضِ إِلَى مُقَارِضٍ آخَرَ أَنَّهُ ضَامِنٌ إِنْ كَانَ خُسْرَان، وَإِنْ كَانَ رِبْح، فَذَلِكَ عَلَى شَرْطِهِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عَمِلَ شَرْطُهُ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ، فَيُوَفِّيِهِ حَظَّهُ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أُجْرَةُ مِثْلِهِ; لِأَنَّهُ عَمِلَ عَلَى فَسَادٍ.
الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ فَسْخُهُ وَرَدُّ الْمَالِ إِلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَفُتْ بِالْعَمَلِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا فَاتَ بِالْعَمَلِ مَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِيهِ فِي وَاجِبِ عَمَلِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرُدُّ جَمِيعَهُ إِلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَشْهَبَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرُدُّ جَمِيعَهُ إِلَى إِجَارَةِ مِثْلِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّهَا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّاهُ، وَإِنَّمَا لَهُ الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى، أَوْ قِرَاضٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ مُشْتَرِطَ الشَّرْطِ عَلَى الْمُقَارِضِ، أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْ قِرَاضٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي سَمَّى لَهُ إِنْ كَانَ الْمُقَارِضُ هُوَ مُشْتَرِطَ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا فَسَدَ الْقِرَاضُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَخَرَّجُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ فِي كُلِّ مَنْفَعَةٍ اشْتَرَطَهَا أَحَدُ الْمُتَقَارِضَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْمَالِ مِمَّا لَيْسَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِهَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِلَى إِجَارَةِ مِثْلِهِ فِي كُلِّ مَنْفَعَةٍ اشْتَرَطَهَا أَحَدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute