وَأَمَّا حَالُهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ: فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيهَا عِنْدَ مَالِكٍ بَيْعٌ، وَلَا شِرَاءٌ، وَلَا أَخْذٌ، وَلَا عَطَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ لِقَرِيبٍ وَلَا بِعِيدٍ، قِيلَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِمَنْ يُعْلَمُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَقَاضٍ. وَاخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِهِ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ مِثْلِ الْقِرَاضِ، وَالْوَدِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ: بِالْجَوَازِ، وَالْمَنْعِ، وَالثَّالِثُ: بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ الْقِرَاضِ، أَوِ الْوَدِيعَةِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ لَا تَكُونُ، فَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ صَدَّقَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَمْ يُصَدِّقْ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي دُيُونِ الْمُفْلِسِ الْمُؤَجَّلَةِ ; هَلْ تَحِلُّ بِالتَّفْلِيسِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ التَّفْلِيسَ فِي ذَلِكَ كَالْمَوْتِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ. وقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ دَيْنَهُ قَدْ حَلَّ حِينَ مَاتَ.
وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُبِحِ التَّوَارُثَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَالْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُرِيدُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ إِلَى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْعَلَ الدَّيْنَ حَالًّا، وَإِمَّا أَنْ يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِلَّ الدُّيُونُ فَتَكُونَ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مضمونة فِي التَّرِكَةِ خَاصَّةً لَا فِي ذِمَمِهِمْ، بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَبْلَ الْمَوْتِ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ يَحْسُنُ فِي حَقِّ ذِي الدَّيْنِ. وَلِذَلِكَ رَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنْ رَضِيَ الْغُرَمَاءُ بِتَحَمُّلِهِ فِي ذِمَمِهِمْ أُبْقِيَتِ الدُّيُونُ إِلَى أَجَلِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ سِيرِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لَكِنْ لَا يُشْبِهُ الْفَلَسُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمَوْتَ كُلَّ الشَّبَهِ، وَإِنْ كَانَتْ كِلْتَا الذِّمَّتَيْنِ قَدْ خَرجَتْ، فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمُفْلِسِ يُرْجَى الْمَالُ لَهَا، بِخِلَافِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ أَصْحَابُ الدُّيُونِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْجِنْسِ، وَالْقَدْرِ. وأَمَّا مَا كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَيْنُ الْعِوَضِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ مِنْ قِبَلِهِ الْغَرِيمُ عَلَى الْمُفْلِسِ فَإِنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَيْنُ الْعِوَضِ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَفُتْ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ، فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا أَنْ يَتْرُكَهَا، وَيَخْتَارَ الْمُحَاصَّةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُنْظَرُ إِلَى قِيمَةِ السِّلْعَةِ يَوْمَ الْحُكْمِ بِالتَّفْلِيسِ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ خُيِّرَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا، أَوْ يُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ أكثر أو مُسَاوِيَةً لِلثَّمَنِ أَخْذَهَا بِعَيْنِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: تُقَوَّمُ السِّلْعَةُ بَيْنَ التَّفْلِيسِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مُسَاوِيَةً لِلثَّمَنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ قُضِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute