لَهُ بِهَا (أَعْنِي: لِلْبَائِعِ) ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ دُفِعَ إِلَيْهِ مِقْدَارُ ثَمَنِهِ، وَيَتَحَاصُّونَ فِي الْبَاقِي، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمَالِكٍ.
فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ وَهُوَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ بِالْقِيَاسِ وَقَالُوا: إِنَّ مَعْقُولَهُ إِنَّمَا هُوَ الرِّفْقُ بِصَاحِبِ السِّلْعَةِ لِكَوْنِ سِلْعَتِهِ بَاقِيَةٌ، وَأَكْثَرُ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ، فَأَمَّا أَنْ يُعْطِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّذِي اشْتَرَكَ فِيهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا فَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَخْذُهَا بِالثَّمَنِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَدُّوا هَذَا الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأُصُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الْأُصُولَ الْمُتَوَاتِرَةَ، لِكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَظْنُونًا، وَالْأُصُولُ يَقِينِيَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا، كَمَا قَالَ عُمَرُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: مَا كُنَّا لِنَدَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِحَدِيثِ امْرَأَةٍ. وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى بِالسِّلْعَةِ لِلْمُفْلِسِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ، أَوْ أَفْلَسَ فَوَجَدَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْلَى; لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ الثَّابِتَةِ. قَالُوا: وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجْهٌ، وَهُوَ حَمْلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ دَفَعُوا هَذَا التَّأْوِيلَ بِمَا وَرَدَ فِي لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ ذِكْرِ الْبَيْعِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ، فَأَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِهَا; لِأَنَّهَا فِي ضَمَانِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِذَا قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ وَيَأْخُذَ السِّلْعَةَ كُلَّهَا، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ سِلْعَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلْ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنْ سِلْعَتِهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ دَاوُدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ: إِنْ قَبَضَ مِنَ الثَّمَنِ شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute