وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظٍ آخَرَ: «لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» .
فَحَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ الْمُعْمِرِ. وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْهُ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِشَرْطِ الْمُعْمِرِ إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ أَنَّهُ أَقَلُّ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْعَقِبِ يُوهِمُ تَبْتِيتَ الْعَطِيَّةِ.
فَمَنْ غَلَّبَ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّرْطِ قَالَ بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرٍ، وَمَنْ غَلَّبَ الشَّرْطَ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعُمْرَى تَعُودُ إِلَى الْمُعْمِرِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْعَقِبَ، وَلَا تَعُودُ إِنْ ذَكَرَ، فَإِنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ (أَعْنِي: رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ) .
وَأَمَّا إِذَا أَتَى بِلَفْظِ الْإِسْكَانِ، فَقَالَ: أَسْكَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ حَيَاتَكَ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِسْكَانَ عِنْدَهُمْ، أَوِ الْإِخْدَامَ بِخِلَافِ الْعُمْرَى وَإِنْ لَفَظَ بِالْعَقِبِ، فَسَوَّى مَالِكٌ بَيْنَ التَّعْمِيرِ وَالْإِسْكَانِ. وَكَانَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، يُسَوُّونَ بَيْنَ السُّكْنَى وَالتَّعْمِيرِ فِي أَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْمَسْكَنِ أَبَدًا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي الْعُمْرَى. وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِسْكَانَ وَالتَّعْمِيرَ مَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ إِذَا صَرَّحَ بِالْعَقِبِ مُخَالِفًا لَهُ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الْعَقِبِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ.
الْقَوْلُ فِي الْأَحْكَامِ وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ جَوَازُ الِاعْتِصَارِ فِي الْهِبَةِ (وَهُوَ الرُّجُوعُ فِيهَا) : فَذَهَبَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجِ الِابْنُ، أَوْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ دَيْنًا أَوْ بِالْجُمْلَةِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حَقٌّ للْغَيْرِ، وَأَنَّ لِلْأُمِّ أَيْضًا أَنْ تَعْتَصِرَ مَا وَهَبَتْ إِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَعْتَصِرُ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ; وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ إِلَّا مَا وَهَبَ لِذِي محرم مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ (أَيْ: وَجْهُ اللَّهِ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الرُّجُوعُ فِيهَا.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَارُضُ الْآثَارِ.
فَمَنْ لَمْ يَرَ الِاعْتِصَارَ أَصْلًا: احْتَجَّ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute