وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ مَشْهُورٍ، وَهُوَ إِذَا سَرَقَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ - أَعْنِي: نِصَابًا - دُونَ أَنْ يَكُونَ حَظُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُخْرِجُوا النِّصَابَ مِنَ الْحِرْزِ مَعًا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِدْلًا أَوْ صُنْدُوقًا يُسَاوِي النِّصَابَ. فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُونَ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونَ مَا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا.
فَمَنَ قَطَعَ الْجَمِيعَ رَأَى الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ مَالِ الْمَسْرُوقِ، أَيْ: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْقَطْعَ لِحِفْظِ الْمَالِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا عُلِّقَ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا بِمَا دُونَهُ لِمَكَانِ حُرْمَةِ الْيَدِ - قَالَ: لَا تُقْطَعُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ فِيمَا أَوْجَبَ فِيهِ الشَّرْعُ قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا مَتَى يُقَدَّرُ الْمَسْرُوقُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَوْمَ السَّرِقَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَوْمَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ فَهُوَ الْحِرْزُ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الْفَتْوَى وَأَصْحَابُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ حِرْزٌ مِمَّا لَيْسَ بِحِرْزٍ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّ الْحِرْزِ: إِنَّهُ مَا شَأْنُهُ أَنْ تُحْفَظَ بِهِ الْأَمْوَالُ كَيْ يَعْسُرَ أَخْذُهَا مِثْلَ الْأَغْلَاقِ وَالْحَظَائِرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفِي الْفِعْلِ الَّذِي إِذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ اتَّصَفَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: الْقَطْعُ عَلَى مَنْ سَرَقَ النِّصَابَ، وَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ.
فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ. فَإِذَا أَوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . وَمُرْسَلُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.
وَعُمْدَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] الْآيَةَ. قَالُوا: فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا، إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ خَصَّصَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ مِنَ الَّذِي لَا يُقْطَعُ فِيهِ. وَرَدُّوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ لِمَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ فِي أَحَادِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ إِذَا رَوَاهَا الثِّقَاتُ.
وَأَمَّا الْحِرْزُ عِنْدَ الَّذِينَ أَوْجَبُوهُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا مِنْهُ عَلَى أَشْيَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ، مِثْلَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ بَابَ الْبَيْتِ وَغَلْقَهُ حِرْزٌ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَوْعِيَةِ. وَمِثْلَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ دَارٍ غَيْرِ مُشْتَرَكَةِ السُّكْنَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute