والقول الثاني في المسألة: يجوز تعادلهما، وبه قال القاضي أبو يعلى في ' مختصره '، وابن عقيل في ضمن مسألة القياس، وأبو بكر الرازي، والجرجاني، والجبائي وابنه، وابن الباقلاني، وقال: قاله الأشعري، وكل من صوب كل مجتهد، وأنه حكي عن الحسن العنبري، وقاله أكثر العلماء، وذكره بعض أصحابنا رواية عن أحمد، واختاره الآمدي وذكره عن أكثر الفقهاء، كما في نظر المجتهد اتفاقا ... احتج من منع التعادل في الأمارتين في نفس الأمر مطلقا بأنه لو وقع، فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين، أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا، وهو محال على الله تعالى، أو يعمل بأحدهما على التعيين، وهو ترجيح من غير مرجح، أو لا على التعيين بل على التخيير، والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها، لأنه لما جاز له الفعل والترك كان هذا معنى الإباحة فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها. وأجيب: بأن ذلك لا يقتضي الإباحة، بل تخيير للعمل بإحدى الأمارتين شاء، لا عمل بأي الفعلين شاء، بدليل أنه لو كانت إحداهما تقتضي تحريمه لا يقال: هو مخير بين فعله مع كونه حراما وبين غيره، فإذا عمل بأحدهما وجب أن يعتقد بطلان الآخر، بخلاف الإباحة فإنه لا يعتقد فيها فساد ما لم يفعل، ونظيره في الشرع التخيير بين أن يصلي المسافر قصرا أو إتماما، فإنه إذا جاز له ترك الركعتين عند اختيار القصر، لا يقال: إن فعل الركعتين مباح. قال البرماوي: وفيه نظر، واحتج من جوز تعادل الأمارتين في نفس الأمر بالقياس على جواز تعادلهما في الذهن، وبأنه لا يلزم من فرضه محال، وقد أجيب عن ذلك. وقال ابن عبد السلام في ' قواعده ': لا يتصور في الظنون تعارض كما لا يتصور في العلوم، إنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، فإذا تعارضت: فإن حصل الشك لم يحكم بشيء، وإن وجد ظن في أحد الطرفين حكمنا به؛ لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه وإن كان كل منهما مكذبا للآخر تساقطا، وإن لم يكذب كل واحد منهما صاحبه عمل به حسب الإمكان كدابة عليها راكبان يحكم لهما بها؛ لأن كلا من اليدين لا تكذب الأخرى. انتهى. قال البرماوي: ' وهو نفيس؛ لأن الظن هو الطرف الراجح، ولو عورض بطرف آخر راجح، لزم أن يكون كل واحد منهما راجحا مرجوحا، وهو محال ' انتهى ... واعلم أنه لا تعارض بالحقيقة في حجج