وفي قوله (الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) تصوير بالغ لحال أولئك المختانين، فإن خيانتهم ومعصيتهم قد بلغت مبلغاً من الشناعة والفظاعة تجاوزت فيه الذين خانوهم وغدروا بهم إلى حد أنهم من شدة خيانتهم قد انعكست الخيانة عليهم فخانوا أنفسهم وظلموها وأوردوها موارد الهلاك والعذاب الشديد من الله تعالى.
وفي التعبير بالاختيان عن الخيانة إشعار بالتدسس النفسي وشدة إخفاء معالم الخيانة التي كانوا عليها إظهاراً للنفاق الذي في أنفسهم.
وجاء قوله (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) بياناً لقاعدة عامة -جرياً على سنة القرآن الكريم- من أنه إذا تحدث القرآن الكريم عن موضوع في وعد أو وعيد أو تحذير أو زجر عن حادث وقع من فرد أو طائفة فإنه يختم آيات ذلك الموضوع بقاعدة عامة لتكون تشريعاً أبدياً للأمة يحميها من الوقوع فيما وقع فيه أصحاب ذلك الحادث.
وفِي التعبير بصيغتي المبالغة (خَوَّانًا أَثِيمًا) بيان لمدى ما وصل إليه أولئك المختانون أنفسهم من خبث في الخيانة، وأنها ثابتة في طبائعهم، مستقرة في نفوسهم، فقد خانوا الله بمعصيته وخانوا الناس بالاعتداء على حقوقهم التي ائتمنوهم عليها، وخانوا أنفسهم بظلمها وإيرادها موارد العذاب، وخانوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكذب عليه وإخفاء الحقيقة عنه طمعاً منهم في حمله على تبرئتهم بتظاهرهم بالصلاح في الإسلام وبما زكى به بعضهم بعضاً.