القرن العاشر الميلادي، وكانت أوروبا في ذلك الزمان، قد بلغت الدرك الأسفل في الانحطاط. وكانت روما متلوِّثة برجس الفساد، وكانت الجهود العظيمة التي بذلها شارلمان لإصلاح قسم كبير من القارة المذكورة قد خابت، وكانت فرنسة نهباً مقسماً لغارات قبائل الشمال، كما كانت إنكلترا كذلك تعاني من غارات الدانماركيين عليها، وكان القسيسون في كل بلد يعيثون فساداً، ولا يبالون مثقال ذرة بما نسميه: مدنية. أما إسبانيا، فكانت بخلاف ذلك، كانت مزدهرة بالعمران، وكانت حديقة تفوق الوصف في النتاج، وكان فيها تسعة من أمهات المدن، ثلاثة آلاف مدينة متوسطة، وعشرات الألوف من القرى. وكان على شاطئ نهر الوادي الكبير فقط إثنا عشر ألف قرية. ومع أن السير في ذلك الزمن لم يكن سريعاً، فقد قال المؤرخون: كان السائر في بلاد الأندلس لا يسير مسافة يوم، إلا ويمرّ على ثلاث مدن، وأما القرى فكانت لا تنقطع تقريباً، وكانت على أحسن حال من العمران، ومدينة قرطبة عاصمة ملكهم، كان عدد سكانها لا يقل عن مليون نسمة. وإشبيلية في وقت من الأوقات تحوي خمسمائة ألف نفس، ومدينة المرية خمسمائة ألف نفس أيضاً، وكان في غرناطة أربعمائة وخمسة وأربعون ألفاً، وفي مالقة ثلاثمائة ألف نفس، وفي بلنسية مائة وخمسة وعشرون، وفي طليطلة مائتا ألف.
ويقدر مجموع سكان الأندلس بثلاثين مليوناً، وزيادة السكان بهذا القدر العجيب، هي في حدّ ذاتها دليل على الدرجة العالية التي وصل القوم إليها من المدنيّة. وقد علم من الاستقراء، أن السكان إذا كانت صحتهم جيدة، وتدبير الصحة سائراً على أحسن حال، فإن عددهم يضاعف في ربع قرن. وهذا يدلّك على ما عمل العرب من الأعمال الجليلة، وتبين لك كيف أفسد الإسبانيون تلك الأعمال من بعد ونقضوها. وإذا علمت أن سكان إسبانيا في القرن العاشر بلغوا ثلاثين مليوناً، فيجب أن يبلغ اليوم مئات الملايين، فاعلم أنه اليوم لا يزيد عن اثنين وعشرين مليوناً. فرقم ثلاثين مليونا في القرن