العاشر، برهان ساطع على ما كان للعرب من العلم والحكمة. وخذ مثلاً انكلترا، فإن سكانها كانوا إذ ذاك مليونين أو ثلاثة. وكانت العناية بترقية الزراعة أساساً لعمران الأندلس.
والناس الذين لم يروا أسبانيا قط، يرون فيها رأياً مبهماً غامضاً، أغلبه مأخوذ من الروايات ورقوق الخَيَالة: أنها أرض خصب، خضرة نضيرة وازدهار دائم، وغناء وعشق لا ينتهيان. والأندلس، هي الناحية التي استوطنها العرب، إذ لم يهتموا كثيراً بالناحية الشمالية - لها صيت ذائع في ابتهاج القلوب وقرّة العيون والهوى العذري والورد وآلات الطرب، وهذه شهرة لا تستحقها. وأنا أحب الإسبانيين، فيمن أحبه من الأقوام الذين سحت في بلادهم، ولكن الطرب ليس من شمائلهم، وليست الأندلس أرض عشق وأزهار وغناء، وإسبانيا اليوم في بؤس وشقاء، مصابة بداء القسيسين، تحكم حكماً مرذولا، ترى في أرياضها في أكثر أيام السنة زربيّة محترقة رقيقة من النبات، والفلاحون المجهودون بكل مشقة يحصلون معيشة ضنكاً من الأرض، ومتى زالت منها الملكية والكنيسة واستبداد الجيش، يجدد فيها نظام السقي وتصير فردوساً مرة أخرى. أما اليوم، فهي محرومة من رأس المال والأعمال، ولا ريب أنها كانت فردوساً في القرن العاشر، حتى نتجت مثل ذلك النمو في السكان، وكان لأهلها ذكاء، فساعدوا به الطبيعة، وكانت الأنهار الصناعية والجداول، توزّع الماء وتروي الأرض، حيث الفلاح الإسباني المسكين اليوم، يرى المطر ينزل في رءوس الجبال، وتسيل به الأودية، وتجري رأساً إلى البحر. والقيعان الواسعة العقيمة اليوم، كانت في زمن العرب حدائق غلباً، كانت تؤتي غلاّت ذهبية، وحتى سفوح الجبال، قد سًطِّحت وألحقت بالأرض الزراعية. وفي كثير من البقاع، كانت الأرض تعطي أربع غلاّت مختلفة في سنة واحدة. وكانت الأقوات كثيرة ورخيصة جداً، وأضاف العرب جميع الوسائل الشرقية إلى الوسائل الرومانية في إسبانيا، فكان الآس يفوح بريحه العطرية، مقرونة بريح الورد والأترج،