لماضٍ مجيد، ينظر إلى الخراب، ويندب مجده البائد. وأما سائر المدينة القديمة العجيبة، فكأنها لم تغن بالأمس. ولو بحثت بجد واجتهاد عن بقايا تلك العظمة الغابرة، لوجدتها تلاشت وصارت كأمس الدابر. وتدور مبهوتاً في شارعها الرئيسي، وهو زقاق ضيِّق حيث كان ربع مليون من النفوس يعيشون في نعيم. تطلب مكاناً طيباً تستريح فيه، فيكون خاتمة تطوافك أنك تجد نفسك في حجرة قذرة، تتغذى بين سائقي البغال والفلاحين. وانتحى مجد العرب نحو الجنوب إلى إشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية، وكانت طليطلة لذلك المجد كالطليعة. وكان الجنوب الشامس وطناً طبيعياً للعرب. ومن العجب أن لا نجد إلاّ قليلاً ممن يعرفون أنّ قرطبة كانت تضاهي في عظمتها ومجدها بابل وروما وبغداد، هذا مع أن عهدها ليس ببعيد. ومنظر قرطبة اليوم منظر محزن. ولا أريد اليوم بهذا النوح والعويل الدائم أن أهيج أو أحاول أن أهيج سخط الناس على الدين الذي ألهم الإسبانيين أن يبيدوا هذه المدينة العظيمة. وأنا أشدّ تأسفاً وتحسّراً على خسارة النوع البشري منى على جناية أولئك الجناة. لو أن الممالك النصرانية عملت وترقت بالعمل الصالح الذي عمله اليونان في الشرق، والرومان في إيطاليا، وفرنسا وانكلترا في شمال إفريقية، ولعمل هؤلاء العرب في طليطلة وإشبيلية وغرناطة، كيف كنا نكون اليوم؟ لو عمّت أفكار قرطبة وعلومها وتهذيبها جميع أوروبا لبلغت أوج المدنيّة وتقدم العلم فيها تقدماً عظيماً في القرن الثالث عشر، ولكانت أمريكا وسائر بقاع الأرض قد اكتُشِفَت قبل تاريخ اكتشافها، واستعمرت بحكمة وإتقان أكثر وأسبق مما وقع لها، وكان النوع البشري اليوم متمتعاً بثروة ورفاهية ورقي وحرية وسمو فكر مثلما سيكون حوالي سنة ٢٥٠٠ م.
فهل كانت قرطبة إلى هذا الحد عجيبة؟ نعم، كانت كذلك بالنسبة إلى القرن العاشر وبالنسبة إلى أي عصر آخر ما عدا زماننا هذا، وكان بإمكانها أن تعلَّمنا دروساً كثيرة من فنون المعيشة.
لم يبق من آثار قرطبة الوسطى إلاّ أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال