حتى اليوم جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجداً. ولولاه ما تجشَّم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة - ولو كانت على بعد خمسة أميال منه - ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليها ليشاهدوه. وهو أعظم معبد في الدنيا بعد كنيسة القديس بطرس، وهو آية لا نظير لها من الهندسة والبناء، وظاهر هذا المسجد لا يستولى على اللّب. ولم يكن العرب الذين كانوا يفضلون الإقامة داخل البيوت أكثر من خارجها يهتمون نسبياً بالمظاهر كثيراً، وأما في الداخل، فهناك العجائب. إذا دخلت الجامع من أي باب من أبوابه التسعة عشر، يخيل إليك أنك تائه في غابة من أشجار المرمر، ففيه ثمانية وستون سارية رقيقة من المرمر والرخام واليسب، وفيه غير ذلك ألف واثنتا عشرة سارية، وفيه تسعة عشر رواقاً، ينتهي كل منها بباب من الأبواب التسعة عشر. وله سقف خشبي منخفض نسبياً زخرف أحسن زخرفة بالأرجوان والذهب. وفي الأعياد الكبيرة توقد مائتان وثمانون ثريا من الفضة والنحاس، يحترق فيها الزيت المعطر، وتتلألأ فيها آلاف كثيرة من المصابيح، فتلقي أنوارها على ذلك المشهد: وأكبر ثريا منها كان محيطها ثمانية وثلاثون قدماً، يحمل ألفاً وأربعمائة وأربعاً وخمسين مصباحاً، ولها مرآة تعكس النور، فيزيد شعاعه تسعة أضعاف. وفيها (٦٠٠٠) طبق من الفضة، مسمرة بالذهب ومرصعة باللؤلؤ. وكان الجامع قد شُيِّد مع مضافاته في القرن الثامن والتاسع والعاشر. والمحراب الذي هو أقدس محل في مسجد العرب، كان فيه حنيتان، وكان أعظم زخرفاً من سائر المسجد. وآخر المحراب يشبه صدفة من رخام، وله مدخل يتلألأ كالذهب الخالص أو الديباج بفسيفسائه الجميلة. وأحيل القارئ على كتب زخرفة البناء أو كتب الاستدلال ليرى عجائب هذا الجامع العظيم. وكان بناؤوه من النصارى المنتمين إلى الكنيسة اليونانية، وكانت بينهم وبين العرب مودة، فجلبوهم لبنائه. وهو أثر لمدنية زاهرة لا يضاهيها اليوم شيء في الدنيا كلها. وكان عبد الرحمن الأول مؤسس هذه الدولة، قد جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل