عمره. وهو الذي ابتدأ بناء الجامع، وأتمه الخلفاء الذين جاءوا بعده، وبلغت نفقاته على ما حدّث به مؤرخوا العرب (٣٠٠٠٠٠٠٠٠) دولار. وإنما كان هذا آخر عمله في حياته، وقد شيّد غير ذلك هو وخلفاؤه ورجال دولته قصوراً فخمة ومساجد كثيرة كانت تزيد المدينة كل سنة جلالة وبهاء. قدّر سكوت سكان قرطبة في أزهى أيامها بمليون، وآخرون قدّرهم بنصف مليون، ولكن مؤرخي العرب حدثونا بأنه كان فيها عشرة آلاف قصر، عشرة منها للملك، و (١١٣٠٠٠٠) دار و (٧٠٠) مسجد و (٩٠٠) حماماً عمومياً و (٤٣٠٠) سوق و (٥٠٠٠) طاحونة على شاطئ النهر، والآن بعد تقدمنا كله، فقرطبة بلدة منحطّة حقيرة، سكانها نحو مائة ألف، من ذوي المناظر الكريهة الأموات، وإن كانوا يعدّون من الأحياء.
وكان للمدينة القديمة شوارع مساحتها عشرة أميال، كلها مضاءة ومبلّطة تبليطاً حسناً، وإلى الآن لا نزال نطأ تبليط العرب في كثير منها، ومجاري مياهها كانت منظمة جيداً، ولا تزال مئات من الدور باقية، فيمكنك أن تتصور معيشة أهل البيت العربي: تدخل من باب حديدي ضخم جميل، ثم تمرّ في دهليز قصير مظلم، فتصل إلى صحن الدار، وهذا الصحن هو وسط البيت، فترى هناك أزهاراً ورياحين وبسطاً من الحرير والفسيفساء المتلألئة والنقوش العربية الجميلة، وتجد في كل صحن تقريباً فسقيّة من المرمر، كل ذلك يجعل المنزل مقاماً بهيجاً تحلو فيه السكنى ويطيب فيه العيش. وقد جلبوا الماء من أميال من نهر (سيرا)، ثم وزّعوه على المنازل في أنابيب من الآنك. وكانت النظافة عند المسلمين فرضاً مقدساً، حتى أن النصارى حين استولوا عليهم دمّروا الحمامات.
وعندنا وصف دقيق، لقصر بناه عبد الرحمن، على ثلاثة أميال من قرطبة. وإذا ذكرنا أن القياس ملكي، فسنعرف شيئاً من معيشة أهل قرطبة في القرن العاشر. بُني القصر لتكريم امرأة، وهي محظيته الزهراء، فجعل لها تمثالا جميلا من المرمر نصبه على باب القصر، وكان يشتغل في بناء هذا القصر