الأخوة التامة، وكرمهم الذي هو كنار على عَلَم على المرضى واليتامى والأرامل والفقراء، وكانوا يلتزمون بأوامر القرآن الإنسانية في الإحسان إلى المرضى والمحتاجين. وقد التزموا بتلك الأوامر تديناً وكرماً أكثر من التزام النصارى بمواعظ عيسى في مجلس وعظه بالجبل. وإذا درست التواريخ حقّ دراستها، ترى أنما يتبجّح به النصارى من كونهم متمسكين بأعمال الخير والأخوّة التي جاء بها الوحي، تراه يتضاءل ويتلاشى أمام ما عمله العرب المسلمون من ذلك. كان عصر ملوك الرواقيين أتباع زينو في روما عصراً عظيماً في الخيرات والمبرّات، وكان عصر المسلمين في الأندلس عصراً عظيماً في الإحسان والبر وأعظم منهما عصرنا هذا الحالي. وأما نصيب النصارى من عمل الخير والإحسان إلى المحتاجين من النوع البشري في سجلات التاريخ في القرون التسعة عشر الأخيرة فضئيل ناقص إلى حد يجعله مسخرة للساخرين. والحاصل أن الطاعنين في العرب لا يستطيعون أن يغمزوهم إلاّ بالانهماك في الشهوات، ولكن ذلك العيب المزعوم، سيكون مزية فخر إذا علمنا أنّ العرب كانوا يزنون مطالب النفس والعقل كليهما بقسطاس مستقيم، وجيلنا الحاضر على ما ورثه من تجارب ستة آلاف سنة من سير حكامها وروايات أديانها، حتى اجتمع له في ذلك ما لم يجتمع لجيل قبله، منقسم إلى فريقين - ما عدا البؤساء الكومستوكيين (١) -: فريق يجدّون في تهذيب النفس وترقية العلوم العقلية والفنون العالية، ويحتقرون الشهوات ويواجهونها بوجه عبوس. والفريق الثاني قوم ذوو دماء حارة، انهمكوا في الخمر والفسق، وأطلقوا لأنفسهم العنان، وأعطوها أقصى ما تريد من
(١) طائفة في أمريكا أسّسها أنتوني كومستوك ( Anthony Comstok) (١٨٤٤- ١٩١٥) ، وكان متقشفاً، وكان جندياً في الحرب الداخلية الأمريكية، وكان يريد أن يصلح أخلاق الجيش، ثم دخل في سلك الإنشاء وصار زعيماً للثورة على فساد الأخلاق، ولكنه كان جاهلاً، لأنه كان يعظم أمر الجزئيات ويهمل الكليات، ومن المعلوم أنه لم ينجح فيما حاوله.