متعطشة حرى - ولا حرارة المحموم للعلم - للعلم الحقيقي - لا لترهات مكاتب القرون الوسطى القشريّة، وكان العلم هناك بلا شك - عند العرب - مائة مرّة أكثر انتشاراً، وكان هو الملهم الحقيقي لحركة المدارس والجامعات التي قامت في القرون الوسطى؟ فانظر كيف يكتب التاريخ إلى اليوم منيعاً فيه هوى الدين يعني النصراني.
ولم تكن حريّة الفكر في الأندلس، التي أقلّ ما يقال فيها إنّها كانت حالها أعلى وأجلّ بكثير منها في الممالك النصرانية، لم تكن هي وحدها تغذي حبّ العلوم والولوع به، بل كان يثيره إجلال العلماء الذي زال من الدنيا بزوال دولة الأندلس، ولم يرجع بعد إلى الدّنيا، ولم يكن الخلفاء يقتصرون على إكرام أكابر العلماء بالجوائز والصلات العِظام من المال، بل كانوا يتخذونهم أصدقاء خاصة وأصفياء ويولّونهم أجل المناصب في الدولة والقصر. وكان لملوك العرب رأي صائب، ينبغي أن يكون قدوة لجميع المدنيات؛ وهو أنّ الرجال اللائقين بتدبير المملكة وإدارة شئونها ليس البلغاء في الأقوال أو المَكَرة ذوي الكيد والدسائس، بل رجال العلم الذين برهنوا على كفاياتهم بسمو أفكارهم وثقوب أذهانهم. ولم يكن العلماء في الأندلس يعيشون في المعامل المظلمة، ونظر الناس واعتبارهم منصرف إلى الأشراف والأجناد ورجال السياسة. بل كان العلماء من أكثر النّاس مالاً ونعمة، وكان النّاس لهم أشدّ حسداً، ولم يكونوا يحسدونهم على قصورهم الملكية وكثرة خدمهم وحشمهم، بل على علمهم. وهذا يدلنا على أنّ الأمّة كلها كانت محتفلة بالعلم والأدب عارفة قدرهما. ولم تكن النساء محرومات من المشاركة في ذلك، وتجد في تأليف سكوت كثيراً من فضليات الأديبات منهنّ. وترى أنّ النساء كن يساجلن الرجال في المحافل العامة، حيث كان الحائزون قصب السبق في النّظم والنثر ينالون جوائز عظيمة.
ولا ينبغي للإنسان أن يغلو ويتجاوز الوسط إلى الطرف الآخر، فيزعم أنّ العلم في الأندلس كان قاصراً على زخرف العقول والتطفّل الظريف، وأن