للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سليمان لو كان قد أنزل بموسى هذه المساءات لما ترك أولاده ولاة على إفريقية والأندلس، ولأن موسى كان أثيراً على نفس يزيد بن المُهلَّب الذي كان مقرّباً جداً من سليمان بن عبد الملك وصاحب الأمر في دولته (١)، ولأن عمر بن عبد العزيز كان من أقرب المقرّبين إلى سليمان، ومن المستحيل أن يرضى عمر بن عبد العزيز عن مثل تلك التصرفات، دون أن يقول كلمة الحق، لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولأن سيرة سليمان الذي وصفه المؤرخون، بأنه مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلّى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز (٢)، لا تستقيم مع اتهامه بالتنكيل بموسى، وهو


= وكانت الحال بين يزيد وسليمان لطيفة خاصة. قال سليمان: فضمه إليك يا يزيد، ولا تضيّق عليه. قال: فانصرف به يزيد، وقد قدم إليه دابة ابنه مخلد، فركبها موسى، فأقام أياماً. قال: ثمّ إنه تقارب ما بين موسى وسليمان في الصلح، حتى افتدى منه بثلاثة آلاف دينار" ... انتهى.
ومن الواضح أن المبالغة والتناقض يسودان هذه الرواية، فسليمان لا يتورّع من تعذيب شيخ فانٍ عذاباً يقربه من حافة القبر، وسليمان تارة قاس غاية القسوة، وهو رحيم غاية الرحمة تارة أخرى في نفس الوقت، بحيث يوصي بهذا الشيخ خيراً، فلا يرضى أن يضيق عليه أحد! كما أن هذه القصة تناقض ما جاء عن سليمان من مزايا، فهو: "مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلى السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز ... " .. الخ، كما جاء في الطبري (٥/ ٣٠٤)، فكيف يقوم بتعذيب شيخ له ماضٍ مجيد، كما وصفه عمر بن عبد العزيز بالذات، وكما يعرف عنه الناس جميعاً؟!
كما أن هناك تناقضاً فاضحاً بين هذه القصة، وبين ما جاء في القصص التي نوهنا عنها في أعلاه، ويبدو أن هذه القصة وأمثالها من جملة القصص الموضوعة للتشنيع بسليمان وغيره من رجال العرب المسلمين الخلفاء ومَن عمل معهم في تلك الأيام الذهبية من تاريخ العرب والإسلام، وبخاصة في مجال الفتوح شرقاً وغرباً، وأمثال هذه القصص ظاهرة التهافت والتناقض، لا تستقيم مع خلق العرب وتعاليم الإسلام، التي كانت سائده في المجتمع العربي الإسلامي حينذاك.
(١) أنظر قادة فتح المغرب العربي (١/ ٢٧٨ - ٢٧٩).
(٢) الطبري (٥/ ٣٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>