في الواقع، حسبما أيّدت الحوادث فيما بعد، سوى ستار الغدر والخيانة، وقد نقضت هذه الشروط الخلاّبة كلها لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربي نفسه في أن يصفها:(بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسباني فيما تلا من العصور). وقد بذل فرديناند ما بذل من عهود وضمانات وامتيازات لأهل غرناطة، بعد ما لقيت جيوشه من الصعاب، وما منيت به من الخسائر الفادحة، أمام أسوار مالقة وبسطة، ولأنه كان يعلم أن الحاضرة الأندلسية الأخيرة كانت تموج بعشرات الألوف من المدافعين، وأنه يقتضي لأخذها عنوة بذل جهود مضنية، وتحمل تضحيات عظيمة، وقد لجأ فرديناند إلى جانب إرهاق غرناطة بالحصار الصارم، إلى البذل والرشوة لإغراء الزعماء والقادة، وعلى رأسهم أبو عبد الله، وذلك لكي يصل إلى غايته المنشودة بطريقة سليمة مأمونة، وجاءت نصوص المعاهدة السرية مؤيدة لما أشارت إليه الرواية الإسلامية المعاصرة من ريب وشكوك تحيط بموقف أبي عبد الله ووزرائه وقادته.
وعاد أبو القاسم عبد الملك والوزير ابن كُماشة يحملان شروط التسليم، وصحبهما فرناندو دى ثافرا أمين ملك قشتالة ومبعوثه، وأُدخل سرّاً إلى قصر الحمراء؛ وجمع أبو عبد الله الفقهاء وأكابر الجماعة في بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، وبعد مناقشات طويلة عاصفة، تمت الموافقة على المعاهدة، وحملها دي ثافرا ممهورة بتوقيع أبي عبد الله إلى معسكر ملك قشتالة.
وقد انتهت إلينا عن هذه الجلسة الحاسمة في تاريخ الأمة الأندلسية، وعن موقف فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان، رواية قشتالية مؤثرة، تنم عن روح الانتقاض والسّخط التي كانت تضطرم بها بعض النفوس الأبية الكريمة التي كانت ترى الموت خيراً من التسليم لأعداء الوطن والدين.
تقول الرواية المذكورة: إنه حينما اجتمع الزعماء في بهو الحمراء الكبير ليوقّعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذٍ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل. ولكن موسى