للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت في تحوير العهود والنصوص التي تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصّاً فنصّاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت شعائرهم وعقائدهم وشريعتهم (١). وأدرك المسلمون ما ترمي إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوَّت في آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التي ألقاها إليهم فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان يوم اعتزموا التسليم للعدو: "أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشدّ ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمائنا، والموت خير ما تلقون منهم. إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق، ينتظركم نهب منازلكم، واغتصاب نسائكم وبناتكم، وتدنيس مساجدكم. تنتظركم المحارق الملتهبة، لتجعل منكم حطاماً هشيماً".

وكان فرديناند يخشى في البداية عواقب التسرع في تنفيذ هذه السياسة، لأن الأمن لم يكن قد توطّد بعد في المناطق المستولى عليها، ولأن المسلمين لم يُنزَع سلاحهم تماماً، وقد يؤدي الضغط إلى الثورة، فتعود الحرب كما كانت، ولكن انتهى إلى الخضوع إلى رأي الكنيسة، واستدعى الكاردينال خمنيس إلى غرناطة ليعمل على تحقيق مهمّة تنصير المسلمين، فوفد عليها في (شهر حزيران - يوليه سنة ١٤٩٩ م - ٩٠٥ هـ)، ودعا أسقفها الدون تالافيرا إلى اتخاذ وسائل فعّالة لتنصير المسلمين، وأمر بجمع فقهاء المدينة، ودعاهم إلى اعتناق النصرانية، وأغدق عليهم التحف والهدايا، فأقبل بعضهم على التنصير، وتبعهم جماعة كبيرة من العامة، واستعمل الوعد والوعيد والبذل


= أعظم السلطات الدينية والقضائية في إسبانيا.
(١) أخبار العصر (٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>