للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هـ - هذا استعراض موجز لإجراءات تلك المحاكم الكنسية الشهيرة، التي سوّدت بقضائها المروّع صحف التاريخ الإسباني زهاء ثلاثة قرون، وقد بث ديوان التحقيق منذ قيامه بقضائه وأساليبه حوله جواً من الرهبة والروع، ولما ذاع بطشه وعسفه، عمد كثير من النصارى المحدثين من يهود ومسلمين إلى الفرار، حتى اضطرت الحكومة أن تصدر سنة (١٥٠٢ م) قرارأً يحرم على ربّان أية سفينة وأي تاجر، أن ينقل معه نصرانياً محدثاً دون ترخيص خاص، وقبض بهذه الصورة على كثير من النصارى المحدثين، في مختلف الثغور الإسبانية، وأحيلوا إلى محاكم التحقيق. وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق، تنحني أمامه أية سلطة، وتحمي أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جرّاء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع في هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامي، لا يتورّعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة في السجن جوعاً (١). وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً، أن يبسط حكم الإرهاب في بعض المناطق، وهذا ما حدث في قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو الذي يعتبر من أشدّ المحققين قسوة وإجراماً. ففي عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع الذي يجري باسم الديوان المقدس وفي ظله، والذي يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت في الموضوع تحقيقات طويلة، انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (٢).


(١) Dr Lea: ibid; V. ١. P. ١٩٠-١٩٢.
(٢) Dr Lea: ibid , V. ١. P. ٢١٠

<<  <  ج: ص:  >  >>