انهيار مملكة غرناطة بقليل، وكان يهود الذين تمتعوا عصوراً بالحرية والأمن، في ظل الحكم الإسلامي، أوّل ضحايا سياسة الإرهاق والمحو التي رسمتها إسبانيا الجديدة. ذلك أنه ما كادت تسقط غرناطة في أيدي الملكين الكاثوليكيين، وما كاد يهود ينتقلون إلى الحكم الجديد، حتى شهرت عليهم السياسة الإسبانية حربها الصليبية، وأصدر الملكان قرارهما الشهير في (٣٠ آذار - مارس سنة ١٤٩٢ م) وهو يقضي بأن يغادر سائر يهود - الذين لم يتنصروا - من أي سن وظرف، أراضي مملكة قشتالة في ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألاّ يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألاّ يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية وإيواء أي يهودي أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرّفوا فيها وفق مشيئتهم (١). فأذعن كثير من يهود للتنصير إشفاقاً على الوطن والمال، وهلك كثير منهم في سجون الديوان المقدس ومحارقه، أو شرِّدوا في مختلف الأقطار بعد التشريد والحرمان. بل لم ينج المتنصرون منهم، من المطاردة والإرهاق لأقل الشبهة كما ذكرنا. ولقيت طوائف المدجّنين من بقايا الأمة الأندلسية، وهي التي بقيت في بعض مدن قشتالة وأراغون في ظل الحكم النصراني، نفس المصير المحزن. وبدأ ديوان التحقيق نشاطه في قشتالة منذ سنة (١٤٨٠ م)، وقبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى في إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ووقع ملايين المسلمين في قبضة إسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق في هذا المجتمع النصراني المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية في تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة
(١) Archivo general de Simancas: P. R. Legajo ٢٨; Fol. ٦.