دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائي بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هي القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها في المجتمع النصراني. ولم تشأ السياسة الإسبانية أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخي، بل رأت نزولاً على وحي الكنيسة وتوجهها المباشر، أن تعجِّل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب في ذلك إلى حدود الإسراف والغلوّ، هي التي أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كرّ الأجيال والعصور، وستبقى تلك الوصمة ما بقيت الحياة.
وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسباني بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية، التي أريد بها تنفيذ حكم الإعدام في أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لديوان التحقيق منذ سنة (١٤٩٩ م) أعني مذ أُكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق في قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله في غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزّيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء في الوطن القديم، وأُكرهوا على التنصر واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الاضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت إسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجَّس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهري، وإنما كانت ترمي إلى إبادتهم، ومحو آثارهم ودينهم وحضارتهم، وكل