نشاطهم، وقتل مواهبهم. ولما اتخذت إسبانيا النصرانية أخيراً خطوتها الحاسمة بإخراجهم، كانت الضربة القاضية لرخاء إسبانيا ومواردها، فانحط الإنتاج الزراعي الذي برع الموريسكيون فيه، وخربت الضياع الكبيرة بفقد الأيادي الماهرة، وكسدت التجارة التي كان الموريسكيون من أنشط عناصرها، وركدت ريح الصناعة، وعفت كثير من الصناعات التالدة التي كانوا أساتذتها، وغاضت الفنون الرفيعة التي استأثروا بها منذ أيام الدولة الإسلامية. وأحدثت هذه العوامل بمضي الزمن نتائجها المخرِّبة، فتناقص عدد السكان، وانكمشت المدن الكبيرة، وذوي العمران، وتضاءلت موارد الخزينة العامة، وشلّت يد الإصلاح والتقدّم، ولم يمض على إخراج الموريسكيين زهاء قرن، حتى أصبح تعداد سكان المملكة الإسبانية كلها ستة ملايين نسمة، وكان سكان قشتالة وحدها أيام سقوط غرناطة سبعة ملايين نسمة، وفقدت معظم المدن الكبرى - مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة - أربعة أخماس سكانها، وعمّ الفقر والخراب مئات المناطق والمدن، وخيّم على إسبانيا كلها جوّ من الفاقة والركود والانحلال.
وقد ظهرت هذه الآثار المخرِّبة، بالأخص في محيط الزراعة والصناعة، وكان تدهور إيراد الضياع الكبيرة، وإيراد الكنائس والأديار، دليلاً على ما أصاب قوة إسبانيا المنتجة: الزراعية والصناعية، بسبب نفي طائفة كبيرة من أنشط طوائف السكان وأغزرهم إنتاجاً. وكان من الحقائق المعروفة أن السكان الإسبان كانوا يبغضون الأعمال الزراعية والفنية، ويعتبرونها أمراً شائناً، وأن الإسباني لا يربي أولاده لمزاولة العمل الشريف، وأن أولئك الذين لا يجدون لهم عملاً في الجيش أو الحكومة، يلحقون بالكنيسة. ويبدي المؤرخ الإسباني الكبير نافاريتي أسفه لوجود أربعة آلاف مدرسة في عصره (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يتعلم فيها أبناء الفلاحين، بينما تهجر الحقول، ولأن أولئك الذين لا يجدون منهم عملاً في الكنيسة لنقص تعليمهم، يحترفون التسول أو التشرد أو السرقة. وقد كتب