معروف لا يخفى على أحد، وقد مرّ بنا أن قسماً من النبلاء فاتحوا الملك في محاذير نفي الموريسكيين على الزراعة في إسبانيا، فلم يفلحوا في توسطهم، ويبدو أن هؤلاء النبلاء كانوا من الإقطاعيين الذين يستفيدون من مهارة الموريسكيين الفذة في الزراعة، وتوقعوا أن مزارعهم سيتسرب إليها الخراب بعد نفي الموريسكيين، وهذا ما حدث فعلاً، وعلى نفسها جنت براقش التي أعماها التعصب والجشع، فقد كان صانعوا القرار الإسباني يومئذ متعصبين أولاً ومنتفعين ثانياً، فخرّب تعصبهم بلادهم، وانتفعوا بعددهم المحدود، وأضروا الشعب بأسره، وعلى رأسهم صفوته الموريسكيون بلا مراء.
تلك هي النتائج المادية الواضحة، الاقتصادية والاجتماعية، التي جنتها إسبانيا النصرانية من جراء سياستها المبيتة لإبادة الأمة الأندلسية. فقد لبثت إسبانيا زهاء قرن تعمل بأقسى وسائل الإرهاق والمطاردة، على استصفاء ما بقي من فلول الأمة الأندلسية في الأرض التي بسطت عليها ظلها زهاء ثمانية قرون، ظلال الرخاء والأمن، وضوء العلم والعرفان، ولم تطق حتى بعد أن استحالت هذه الفلول إلى شراذم معذَّبة مهيضة، وأكرهت على نبذ دينها ولغتها وتقاليدها، أن تبقي عليها، وعلى ما تبقى لها من مواهب وقوى منتجة، ورأت في سبيل أسطورة من التعصب والجهالة، أن تقضي عليها بالتشرد والنفي النهائي، وأن تخرج من بين سكانها زهاء نصف مليون من أفضل العناصر العاملة. وكان من سوء طالع إسبانيا أن جاء نفي الموريسكيين في وقت أخذت فيه عظمة إسبانيا ورخاؤها ينحدران سراعاً إلى الحضيض، وجنح المجتمع الإسباني إلى حياة الدّعة والخمول، وأخذ سكانها في التدهور، فجاء نفي الموريسكيين ضربة جديدة لحيوية إسبانيا، التي أخذت في التفكك والذبول، وتركت وراءها جرحاً عميقاً لم يقو الزمن على محو آثاره بصورة حاسمة. ومن ثم فإنه من الواضح أن يعلق النقد الحديث أهمية بالغة على نفي الموريسكيين، ويعتبره عاملاً بعيد المدى فيما أصاب إسبانيا الحديثة، من ضروب التفكك والانحلال.