[ما جاء في اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء -يعني: ابن جبر - حدثني يحيى بن أبي المطاع قال: سمعت العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله! وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، وسترون من بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة)].
هذا حديث عظيم، يقول فيه العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة) يعني: مؤثرة في القلوب؛ لأنها نفذت من القلب ووصلت إلى القلوب، ولهذا (وجلت منها القلوب) يعني: خافت، (وذرفت منها العيون) لأنها: حارة ومن القلب، فأثرت في القلوب الخوف وفي العيون الدمع.
(فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فاعهد إلينا) وفي لفظ: (فأوصنا) يعني: هذه الموعظة مؤثرة وحارة، ونفذت للقلوب فكأنك تودعنا يا رسول الله.
والعادة أن المودع عندما ينصح يأتي بأقصى ما عنده، فلما صارت هذه الموعظة بليغة ارتبكوا كأنها موعظة مودع، فقالوا: فماذا تعهد إلينا؟ قال: (عليكم بتقوى الله)، أوصى بتقوى الله التي أوصى الله بها، فوصية النبي صلى الله عليه وسلم هي وصية الله تعالى في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١] أوصى الله عباده أن يتقوه، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (عليكم بتقوى الله) وتقوى الله هي: توحيد الله وطاعته، وأداء الأوامر، وننتهي عن النواهي، والتقوى هي جماع الدين، وأصلها توحيد الله، وإخلاص الدين له، ثم أداء الواجبات وترك المحرمات، وإذا قرن البر بالتقوى فسر البر بأداء الأوامر، والتقوى باجتناب النواهي، وإذا ذكر أحدهما اشتمل الأمرين.
(عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة) يعني: لولاة الأمور، وهذا في غير معصية الله، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتقوى الله والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية، يعني: يطاع ولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، فمن أمر بمعصية الله لا يطاع حتى لو كان الذي أمر أميراً أو أباً أو زوجاً أو سيداً، إذا أمر الأمير بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة، وإذا أمر الأب ابنه بمعصية الله لا سمع له ولا طاعة، وإذا أمر الزوج زوجته بمعصية الله لا سمع له، وإذا أمر السيد عبده بمعصية الله فقال: اشرب الخمر، أو اقتل مسلماً، أو تعامل بالربا فلا يطاع.
لكن ليس معنى هذا أنك تتمرد عليه.
لا، بل لا تطعه في خصوص المعصية، لكن يبقى ما عداه على السمع والطاعة؛ لأن السمع والطاعة لولاة الأمر فيه جمع للكلمة، واتحاد للصف، وجمع للقلوب، وقوة للدولة، وإرهاب للعدو.
أما إذا تمرد الناس على ولاة الأمور اختل الأمن، وتناكرت القلوب، وتفرق المسلمون، وتربص الأعداء بهم الدوائر، وصار هذا من أسباب الفرقة والاختلاف وتناكر القلوب، ويؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وبالتالي إلى إراقة الدماء، واختلال الأمن، واختلال الاقتصاد والمعيشة، والتجارة والزراعة والدراسة، وتفسد أحوال الناس، ويكون سبباً في وقوع فتن عظيمة لا أول لها ولا آخر تقضي على الأخضر واليابس.
ولهذا أمر الناس بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وكان أهل الجاهلية لا يسمعون ولا يطيعون لولاة أمورهم ففسدت أحوالهم، ولهذا أمر الناس بالسمع والطاعة لولاة الأمور ونهوا عن الخروج على ولاة الأمور حتى ولو فعلوا المعاصي، ولكن النصيحة مبذولة من قبل أهل الحل والعقد من قبل العلماء، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أدى الناس ما عليهم.
ولا يجوز الخروج على ولي الأمور حتى ولو شرب الخمر، أو ظلم بعض الناس في ماله أو دمه؛ لأن هذه المعصية مفسدة، لكن مفسدة الخروج أعظم وأعظم، فإذا خرج الناس على ولاة الأمور أريقت الدماء، واختل الأمن، وتفرق الناس، واختلت أحوال الناس، وتدخل الأعداء، ووقعت الفتن.
هذه مفاسد عظيمة أعظم من مفسدة المعصية، والشرع جاء بدرء المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وتكميلها، ومفسدة المعصية التي تحصل من ولاة الأمور مفسدة قليلة، تدرأ في جانب المفاسد العظيمة التي تنشأ من الخروج على ولاة الأمور.
وهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بتقوى الله، وبالسمع والطاعة لولاة الأمور، قال: (وإن عبداً حبشياً) يعني: وإن كان ولي الأمر عبداً حبشياً، وفي اللفظ الآخر في حديث أبي ذر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف).
يعني: مقطوع الأنف أو الأذن أو اليد يسمع ويطاع له، فإذا غلب الناس بسيفه وقوته تمت له الخلافة، ووجب السمع والطاعة له في طاعة الله وفي الأمور المباحة.
ثم قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً).
فيه بيان أنه يحصل اختلاف ومخالفة للسنة في كثير من الأمور.
ثم قال النبي: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
فيه الأمر بلزوم السنة وسنة الخلفاء الراشدين، وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسنة الخلفاء الراشدين إنما يعمل بها إذا لم توجد سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما مع وجود السنة فيجب لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خفيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجد في المسألة سنة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، وليس معنى ذلك: أن سنة الخلفاء الراشدين تؤخذ حتى إذا عرفوا السنة لا، بل المراد عند خفاء السنة.
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمتعة وهو الإحرام بالعمرة والحج معاً، ثم اجتهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان فكانوا يأمرون الناس بالإفراد اجتهاداً منهم حتى يكثر الزوار والعمار.
وكان علي وأبو موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم وجماعة يفتون بالمتعة عملاً بالسنة، والخلفاء الراشدون الثلاثة يفتون بإفراد الحج، والعمرة يكون لها وقت آخر حتى يكثر العمار والزوار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالمتعة وشدد عليهم، وألزمهم بها حتى يزول اعتقاد الجاهلية الذين يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في حجة الوداع أن يتمتعوا إلا من ساق الهدي.
لكن الخلفاء الثلاثة اجتهدوا وقالوا: إنه زال اعتقاد الجاهلية فأفتوا الناس بالإفراد، وكان علي يفتي بالمتعة على ما جاءت به السنة وكذلك ابن عباس وأبو موسى الأشعري.
ولما نظر بعض الناس إلى ابن عباس في الحج وهو يفتي بالمتعة، قال له: ابن عباس يفتي بالمتعة وأبو بكر وعمر يفتيان بالإفراد، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر! إذا كان الذي خالف السنة لقول أبي بكر وعمر يخشى أن تنزل عليه حجارة من السماء، فكيف بمن أخذ بقول غيرهم؟ فهذه المسألة يؤخذ فيها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، فإذا لم يوجد في المسألة سنة يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) هي الأضراس، يقال للشيء الذي يراد أن يتمسك به: عض عليه بالنواجذ.
(وإياكم ومحدثات الأمور) تفيد التحذير من الأمور المحدثة وهي البدع، (فإن كل محدثة بدعة).
وفي الحديث الآخر في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني: مردود، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود على صاحبه.
وفيه التحذير من البدع والأمر بلزوم السنة، فهذا الحديث حديث عظيم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور وإسحاق بن إبراهيم السواق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ منها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد)].
وهذا شاهد للحديث السابق، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام، قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ منها بعدي إلا هالك)، هي الوصية بتقوى الله، والوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمور.
وفيها: أن المؤمن يقبل الحق وينقاد كالجمل الأنف، فأينما قيد انقاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا