قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عبد الصمد عبد العزير بن عبد الصمد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)].
هذا الحديث فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل، وهي من النعيم الذي يؤتاه أهل الجنة، بل أفضل نعيم يعطاه أهل الجنة هو رؤية المؤمنين لربهم عز وجل، والحديث صحيح رواه البخاري ومسلم، وفيه الرد على من أنكر الرؤية من الجهمية والمعتزلة.
قوله صلى الله عليه وسلم:(وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه) فيه أن الكبرياء صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وفي الحديث الآخر:(الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)، فالكبرياء والعظمة من صفات الله، قال تعالى:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجاثية:٣٧]، ففيه إثبات صفتين: صفة الكبرياء، وصفة الرؤية.
وفيه إثبات الجنة والرد على من أنكرها، والمعتزلة يقولون: إن الجنة والنار لا يخلقان إلا يوم القيامة، وهذا باطل، والصواب: أنهما موجودتان الآن، ومخلوقتان دائمتان لا تفنيان، والأدلة الكثيرة دلت على ذلك، فالمؤمن يفتح له باب إلى الجنة وهو في قبره، والكافر يفتح له باب إلى النار، والأرواح تنعم في الجنة وتعذب في النار، فهما موجودتان الآن.
أما الأشاعرة فيثبتون الرؤية، لكنهم لا يثبتون الجهة، أي: ينكرون الجهة والعلو، فيقولون: إنه يرى لكن في غير جهة، وهذا قول غير معقول ولا متصور، ولهذا أنكر جماهير العقلاء عليهم وسفهوهم، وضحكوا منهم وقالوا: إن هذا غير متصور في العقول، ولا يمكن أن تكون الرؤية إلا في جهة من الرائي، لا بد أن يكون المرئي مواجهاً للرائي مبايناً له، ولهذا أثبت العلماء أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، كما دلت النصوص، وكما سبق في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)، يعني: أنكم ترونه رؤية واضحة، كما أننا نرى القمر من فوقنا، فإننا نرى الله من فوقنا، كما في حديث ابن ماجه وإن كان فيه ضعف: أن الرب سبحانه يشرف على أهل الجنة فيقول: (يا أهل الجنة! سلام عليكم).
والمعتزلة أنكروا الرؤية والعلو جميعاً، وأهل السنة أثبتوا الرؤية والعلو جميعاً، والأشاعرة أثبتوا الرؤية وأنكروا العلو، فهم يريدون أن يوافقوا المعتزلة في إنكار العلو، ويريدون أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية، ولكنهم لا يريدون أن يفارقوا المعتزلة في إنكار العلو، فعجزوا عن ذلك فلجئوا إلى حجج سفسطائية مموهة، فقالوا: إنه يرى لا في جهة، وهذا قول غير معقول ولا متصور، والأشاعرة دائماً تجدهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولذا تسلط عليهم المعتزلة وقالوا: إنكم قلتم قولاً غير معقول ولا متصور، فيلزمكم إما أن تثبتوا العلو فتكونوا أعداءً لنا مع أهل السنة، أو تنكروا الرؤية فتكونوا أصحاباً لنا معنا، أما أن تبقوا هكذا على القول برؤية بدون جهة، فهذا غير متصور ولا معقول، وقد رد عليهم من جهة العقل وبالنصوص الكثيرة التي دلت على أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، كما في حديث (كما ترون القمر) وحديث: (كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب)، ومعلوم أننا نرى القمر والشمس من فوقنا.