[عدم صحة التوبة ممن كتم العلم إلا ببيان ما كتمه]
من عمل معصية ثم تاب منها لا بد أن يتوب منها لذاتها، فإذا كان مثلاً قاتلاً، فلا بد أن يتوب فيما بينه وبين الله ويسلم نفسه لأولياء القتيل؛ حتى تصح توبته، وإذا كان كاتماً فلا بد من التوبة، وتوبته أن يبين؛ ولهذا قال الله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٦٠].
وجاء في معنى هذه الآيات والأحاديث نصوص أخرى تدل على أنه لا يجوز الكتمان، فالله سبحانه وتعالى نعى على أهل الكتاب كونهم يكتمون العلم، قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:٦٢ - ٦٣].
وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:١٨٧].
فهذه الآيات وهذه النصوص كلها فيها الذم لمن كتم العلم، وفيها تحريم كتمان العلم، والوعيد الشديد لمن كتم علماً.
قال الخطابي رحمه الله: إن هذه الأحاديث تشير إلى نوع من العلم، وهو العلم الضروري لا فضول العلم، فإذا كتمه كأن يكتم الإسلام والصلاة عَمَّن جاء يسأله، وقد حان وقت الصلاة مثلاً، فإنه يقع في حكم هذه النصوص وينطبق عليه هذا الوعيد وهذا الوصف.
والصواب: أنه عام في كل كتمان للعلم، سواء سئل عنه أو لم يسأل عنه، والخطابي يقول: هذا في نوع خاص، وهو العلم الضروري الذي إذا سئل عنه كتمه.
والصواب: أنه عام في كل علم يحتاجه الناس، سواء سئل عنه كما في هذا الحديث، أو لم يسأل عنه، فكل علم يحتاج إليه الناس فيكتمه؛ فعليه الوعيد إلا إذا بينه غيره، فإنه يسقط فرض الكفاية، وأدى ما عليه.
فكل علم يحتاج إليه الناس، ويكتمه الإنسان فهو آثم إلا إذا بينه غيره، فإن قام غيره بالبيان سقط عنه الفرض، أما إذا لم يبينه غيره، والناس محتاجون إليه، وعنده هذا العلم، فلا بد أن يبينه، وإلا فإنه يأثم.
ومن الآيات التي تدل على أنَّ من كتم العلم آثم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:١٧٤] وهذا فيه الوعيد، وكذلك الآية التي قبلها قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩] وكذلك أخذ الميثاق على أهل الكتاب وذم الكتمان، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١٨٧].
وقوله تعالى في سورة المائدة: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:٦٣] فالآية التي قبلها في سورة المائدة: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:٦٢] ثم قال: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:٦٣] يعني: هلا ينهاهم الربانيون والعلماء، {عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:٦٣].
والتخريج في الكتاب الثاني، رواه الشيخان، البخاري ومسلم.
قوله: [حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني حدثنا خلف بن تميم عن عبد الله بن السري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها؛ فمن كتم حديثاً فقد كتم ما أنزل الله).
وهذا الحديث ضعيف جداً، فيه حسين بن أبي السري رمي بالكذب، وفيه عبد الله بن السري أيضاً ضعيف ومنقطع؛ لأن عبد الله بن السري لم يَرْوِ عن ابن المنكدر ففيه ثلاث علل.
والحديث كما قال الألباني رحمه الله: لم ينفرد به أبو السري، ولو انفرد به لكان موضوعاً، لكن رواه غيره، فيكون ضعيفاً جداً، والسري متهم بالكذب نسأل الله العافية، أو وضاع.
وقال البوصيري في سند هذا الحديث: هذا إسناد فيه الحسين بن أبي السري كذاب، وعبد الله بن السري ضعيف.
وذكر المزي في الأطراف أن عبد الله بن السري لم يدرك محمد بن المنكدر.
والكتمان النهي عنه عام، ولا يتعلق بما قيد في الحديث بأنه إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فكتم العلم لا يقيد بهذه الحالة، بل هو في كل وقت منهي عنه، وكل علم للناس إليه حاجة ففي كتمانه وعيد شديد، إلا إذا بينه غيره.
قوله: [حدثنا أحمد بن الأزهر، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثني عمرو بن سليم، حدثنا يوسف بن إبراهيم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)].
وهذا الحديث ضعيف أيضاً، فيه يوسف بن إبراهيم، لكن متن الحديث صحيح، إذْ يشهد له الحديث الأول والثاني، فمتن الحديث صحيح، وإن كان السند ضعيفاً لأجل يوسف بن إبراهيم، وفيه تحريم الكتمان، فيحرم على من علم شيئاً أن يكتمه إذا كان للناس حاجة إليه.
قوله: [حدثنا إسماعيل بن حبان بن وافد الثقفي أبو إسحاق الواسطي، حدثنا عبد الله بن عاصم، حدثنا محمد بن داب، عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الناس في أمر الدين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار)].
وهذا الحديث ضعيف أيضاً؛ لأن فيه محمد بن داب وهو ضعيف، ومتن الحديث صحيح تشهد له أحاديث سابقة، وهو أنه يحرم الكتمان.
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص بن هشام بن زيد بن أنس بن مالك، حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار)].
هذا الحديث إسناده حسن، محمد بن عبد الله بن حفص شيخ ابن ماجة روى عنه جمع، ووثقه ابن حبان، ولا نعلم فيه جرحاً.
وهذا الحديث يضم إلى الأحاديث السابقة، وهو يدل على تحريم الكتمان، وأنه لا يجوز، وأنه من كتم علماً فله الوعيد الشديد، وأنه يجب على الإنسان أن يبين ما عنده من العلم إذا كان الناس محتاجين إليه، وكذلك إذا سئل عنه وعنده علم فيجب عليه أن يبين ولا يكتم، فإن بينه غيره فإنه سيرتفع عنه الإثم، ويبقى الاستحباب في البيان.
ومعلومٌ أنَّ الناس يستبعدون الفتوى؛ لعلمهم أن غيرهم يكفيهم، لكن إذا تعين على الإنسان ولم يوجد غيره فيجب عليه أن يبين، إلا الشيء الذي لم يتحقق منه، والذي فيه إشكال فلا يتكلم فيه.