[فضائل أصحاب رسول الله: فضل أبي بكر الصديق]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله)، قال: وكيع يعني: نفسه].
هذا الحديث رواه الشيخان في صحيحيهما، ورواه غيرهما، وفيه إثبات الخلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والخلة بالنسبة للمخلوق هي كمال المحبة ونهايتها، وهي درجة من درجات المحبة، إذ المحبة درجات ومراتب متعددة، ومن مراتبها: الصبابة، والغرام، والعشق، والتتيم، والتعبد والخلة، وأعلاها الخلة، وسميت الخلة خلة؛ لأنها تتخلل شغاف القلب وتصل إلى سويدائه، ولا يتسع القلب لأكثر من خليل واحد، لكن يتسع لمحبة أناس كثيرين؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن) يعني: نفسه، إذ لو كان في القلب متسع لكان لـ أبي بكر، ولكن قلبي لا يتسع، فقد امتلأ قلبي بخلة ربي عز وجل.
بخلاف المحبة فإن القلب يتسع لأكثر من محبوب، فـ أبو بكر حبيب الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد سأله عمرو بن العاص: (من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال ومن الرجال؟ قال أبوها)، وأسامة كذلك حب رسول الله وابن حب رسول الله.
فيتسع القلب لأكثر من محبوب، لكنه لا يتسع لأكثر من خليل، ولهذا تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من خلة كل أحد من الناس فقال: (وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل)؛ لأنه خليل الله، (ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن) يعني: نفسه.
وفيه إثبات الخلة لمحمد صلى الله عليه وسلم كما ثبتت الخلة لإبراهيم، فإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام هما الخليلان.
وأما الخلة بالنسبة للرب فهي صفة من صفاته تليق بجلاله وعظمته، فلا يشبه أحداً من خلقه.
وأنكر المعتزلة والجهمية الخلة جرياً على مذهبهم في نفي الصفات، وأول من نفى الصفات الجعد بن درهم، وأول ما أنكره صفتان: صفة الخلة والكلام، فزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، وضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق فقتله في يوم عيد الأضحى بفتوى من علماء زمانه، وأكثرهم من التابعين، وقد شكره العلماء على ذلك، وروي عن خالد بن عبد الله أنه قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل من خطبة العيد وذبحه أمام الناس.
قال ابن القيم: شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان.
ويرجع إلى هاتين الصفتين جميع الصفات؛ لأن إنكار الكلام إنكار للرسالات وللنبوات وللكتب المنزلة، وإنكار الخلة أيضاً قطع العلاقة بين الخالق والمخلوق.
والجهمية تفسر الخلة بالفقر والحاجة، وهذا من أبطل الباطل، فإن كل الخلق فقراء إلى الله، بل حتى الجمادات فقيرة إلى الله، كالأصنام والأوثان، وعلى قولهم فلا يكون هناك مزية لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وأما قول أبي هريرة: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم، فهذه الخلة إنما هي من جانب أبي هريرة لا من جانب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة مقتل الجعد فهي مشهورة، ولو ضعفت فلا يضر ذلك شيئاً والغالب أن الجهمية يضعفونها لكن لا غرو أن الذين يضعفون هم الجهمية غالباً حتى لا يثبت قتل الجهمية، فهم يشككون في قصة خالد بن عبد الله القسري، ويشككون في نسبة الرسالة للإمام أحمد، ويشككون في بقاء ابن سينا على معتقده، ويقولون: إنه تاب، ويشككون في المناظرة التي حصلت بين أهل السنة وأهل البدع.
فالأصل ثبوتها فقد أثبتها العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.